هذبا تخطب عذبا

هذبا تخطب عذبا
لم تكن المرة الأولى التى تراه يتسلل من جوارها ليقضى ساعات الليل ساهرا قلقا يتأمل نجوم السماء.. ويرسل النظر عبر الصحراء مهموما..
لم تحاول أبدا أن تقطع عليه خلوته.. أو تسأله عن سر حزنه العميق.. لأنها كانت تعرف السبب..
لقد مضت خمس سنوات كاملة من تزوجته وسط فرحة الأهل فى احتفال يليق بـ هذبا ابنة الأمير مهذب حاكم بلاد الشيخ العامرة.
خمس سنوات كاملة ولم تنجب له ولدا..
كانت تراه يداعب ويلاعب أطفال القبيلة فتحرق الحسرة قلبها، لأنها لم تستطع أن تنجب للمنذر ابنا يليق بكل هذا الحب للأطفال الذى يملأ قلبه.. ويكاد يفيض دموعا من عينيه أمام كل طفل أو طفلة يراها.. كانت الحسرة تحرق قلبه .. فتسيل دموعها فى صمت وهى لا تعرف كيف تستعيد حبه الهارب أو الذى يكاد يفر، كطير تخبط بين جدران قفصه..
قال الراوى
منذ عاد وزير هلال بن عامر إليه دون أن يعثر على ولده المنذر وأخبره بهجرته من الشام إلى العراق، وهو فى غم وهم شديد. فقد أضاع ابنه الوحيد، وأحس بأنه لن يلقاه بعد الآن.
وأحس أن الله الواحد الديان .. يعاقبه على ما ارتكبه حياله من ذنب،وما جلبه عليه من الأحزان. عندما نسى أهم علمه أياه الإسلام.. أن لا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى والإيمان.. ورفض أن يزوجه ممن هواها القلب.. طرده ليهيم فى الدنيا ويعانى الغربة الكرب.. لأنها ليست فى مقامه.. ولا تصلح إلا أن تكون من عبيده وخدامه.. فهى من نسل حساس القاتل ومن عشيرة البكريين، وأين هؤلاء من أرومة التغلبيين .. سلالة المهلل العنيد.. وكليب الشهيد.
صرخ هلال فى الليل صرخة تزلزل الجبال..
وتوقظ من النوم الرجال.. فزعين لما أصاب سيدهم من حسرة.. وضعف لا يليق ببنى مرة.. لكن الحزن فى قلب هلال كان ثقيلا كصخور الجبال.. فقد سلك من ابنه سلوك الجاهلية.. عندما رفض أن يزوجه من الفتاة البكرية.. ناسيا ما استقر بقلبه منذ رأى رسول الله.. من سماحة الإسلام الذى لا يحط من كرامة الإنسان .. بسبب الأديان والأجناس أو الألوان.
هذا ما كانت عليه حال هلال بن عامر..
فماذا كان من أمر ابنه المنذر المطرود المهاجر..
صلى على رسول الله المنزه عن الكبائر الصغائر.
وصل المنذر ومن بقى معه من أصحابه إلى تخوم بغداد وسأل عن ملك كريم وأمير عظيم يلجأ إليه ويحتمى به. فدلوه على الأمير الحاكم بلاد الشيخ. وهو الأمير مهذب الذى كان يحكم على مائة وثمانين ألف بطل .. ويملك الارض الخصبة ما بين النهر والجبل..
وكانت للأمير مهذب عيوم وأرصاد .. تراقب حدود البلاد .. فوصله لجوء المنذر بن هلال وقدومه مع صحبه عليه.. فركب فى عشرين ألف من رجاله.. ليكون فى استقباله .. فقد كان يعرف مقامه وشجاعته.. وما فعلته الأيام وما بدلت من أحواله..
وما أن أقبل المنذر عليه حتى نزل عن حصانه وسلم عليه.. وأكرمه غاية الإكرام. وأظهر له الترحيب والإحترام وعاد به إلى بلاده ومستقر حكمه وهو يحس أن الله سيحقق به حلمه.. إذ لم يكن له ولد.. وكان هذا الأمر يقلقه ويسبب له لى شيبته بعض الهم والكمد.. وها هى الأقدار تسوق إليه بطلا من الأبطال .. وأى بطل؟!. فراح عنه الهم وملأ قلبه الأمل.. أن يتحقق حلمه قبل أن يوافيه الأجل!.
الآن يمكن أن يطمئن على أبنته التى فتن بجمالها الكثيرين.. ولكنها رفضتهم أجمعين. فزرعت بينهم فتنة لا ينطفئ لها لهيب. ووضعته فى موقف عجيب.. لذا كان يتمنى أن يزوجها من غريب.. حتى لا يقال أنه فضل رجلا منهم على بقية الرجال .. ومن فى الدنيا يحل له هذا الإشكال أفضل من المنذر بن هلال..
صلوا على طه أعظم الأبطال..
تذكرت هذبا كل ذلك وهى تراقب زوجها الحبيب الحزين .. مرت الأيام الحلوة أمامها بكل تفاصيلها وجمالها .. منذ رأت المنذر أول مرة وهى ما صاحباتها وسط المرج المزهر بالقرب من الجبل .. قبل أن يلتقى مع أبيها يوم وصوله.. وكيف رأت فى خصاله وفعاله ما أوقع بقلبها حبه..
وكانت قد شردت عن صاحباتها وابتعدت وفقدت طريق العودة .. وامتلأ قلبها رعبا حين لاح لها فجأة ذلك الضبع الكريه الذى كاد يفتك بها.. لولا ذلك الفارس الذى عاجله بضربة من سيفه أردته قتيلا على بعد خطوات منها.. وكيف حملها فاقدة الوعى إلى صاحباتها .. وهو لا يعرف من هى ولا أنها أفاقت بين ذراعيه القويتين وظلت تتظاهر بالإغماء لتشبع عينها بما يشع وجهة من رجولة وبهاء..
ابتسمت حين تذكرت كيف سلمها لصاحباتها فى خجل واختفى على عجل .. فلم تعرف اسمه وهو الذى ملأ عليها الدنيا وملك قلبها حسنة وخلقة ورسمة.
وحين فوجئت به يجلس مكرما معززا إلى جوار أبيها، ظنته لأول وهلة ممن جاءوا لطلب يدها .. ففرحت ورقص قلبها.. لولا أنها رأت والدها يضحك فى سعادة على غير العادة، عندما يكون فى الأمر خطبة لها، فانقبض قلبها.. فالأمر بالتأكيد على غير ما دارخ بخلدها.. لأن طالبى يدها وهم كثيرون لم يجلبوا لأبيها سوى الغم والحزن، لانهم يزيدون من عدد الذين يرفضون، وعليه وعليها يحقدون. كادت تصيح من مكانها خلف الستائر :"إنى موافقة يا أبى" ولكنها .. كانت تملك من الأدب ما يمنعها من التصريح بحبها.. فأسرت ما بقلبها. وأغلقت مفاتيح صدرها .. على سرها..
عادت الابتسامة تلوح على وجهها.. حين تذكرت كيف تقدم هو بعد تردد وكتمان لطلب يدها.. كان غير واثق وهو الغريب المهاجر أن يقبل والدها زواجها منه.. صحيح أنه قربه إليه حتى صار كوزيره وأحبه كأنه ابنه .. ولكن بعد أن وصلته أخبار رفضها لهذا العدد من الفرسان والرجال .. يئس وتأكد أن زواجها منها هو بعينه المحال.
وكادت تقهقه عندما تذكرت والدها وهو يقفز كالأرنب، وهى عادة تغلب عليه حين تغلب الفرحة .. ساعة حدثته زوجته .. عما أسرت به إليها ابنته.
- لم .. لم تحدثينى بهذا من قبل؟
- لم يكن من حقى أن أكشف لك سرها .. ونحن لا نعرف ما نعرفه الآن ..
- أو لست أبيها .. وكان من حقى أن أعرف ما يدور فى بيتى؟
- دعك من هذا! … لم أكن أجرؤ … ولم تكن هى لتسمح لى إلا بعد تأن تتأكد أنه يريدها كما تريده..
شجعتها المشاعر التى اجتاحتها أن تخترق الصمت الذى أحاط المنذر نفسه به وسط سكون الليل .. فاقتربت خفيفة كالطيف منه .. ووضعت كفها الرقيق على كتفه فى حنان الأم أكثر من شوق الزوجة.
فالتف ناحيتها وقد غمرت وجهة ابتسامة مغتصبة .. لم يفت عليها أنه بذل جهدا خارقا ليجعلها ابتسامة حقيقية.
- ماذا بك.. يا منذر؟..
- لا شىء لا حبيبة القلب..
- أنا هذبا يا منذر، أنا التى تقرأ صفحة وجهك بل وثنايا داخلك كالكتاب .. بح لى بما يهمك.. ويقلقك..
- هل تظنين أن قلب رجل يجد نفسه فجأة فى موقع الأمير مهذب ويحكم هذه الأرض باسمه يمكن أن يخلو قلبه من قلق .. بعض المشاكل تطارد الإنسان حتى إلى فراشه..
- منذر.. لا تخفى ألمك فأنا أعرف سره..
أختلجت عينا المنذر فزعا أن تكون عرفت بالفعل سر حزنه أو خمنته فاستدار إليها وأخذها بين أحضانه فى حنان وهمس فى أذنها..
- لا تشغلى بالك بأمور .. لا تخصك..
- لا .. إنها أشد الأمور التى تخصنى .. أنا أعرف مقدار ما يسببه لك من ألم أننى لا أنجب لك الطفل الذى تريده..
حاول أن يعترض ولكنها أسرعت ووضعت إصبعها المضىء على فمه طالبة ألا يقاطعها..
_ أتظن أننى بلهاء .. أو أننى على هذا القدر من الغباء الذى لا يجعلنى أشعر بما يدور فى داخلك.. عندما تداعب أطفال الآخرين.. أو ذلك الحنان والحنين الذى يفيض حولك حين تحمل طفلا أو تطعم طفلة أى طفلة.
صمت المنذر فلم يجد كلمات ليرد على هذه المرأة الذكية التى يحبها كما لم يحب أحدا فى الوجود .. والذى يكتم فى قلبه شوقه القاتل لطفل من صلبه خشية أن يجرح مشاعرها. لكنها واصلت كلامها وهى تتظاهر بالمرح..
- أنا بنفسى التى ستزوجك من امرأة أخرى .. تنجب لك الطفل الذى تريد، بل لقد اخترتها بالفعل من سلالة منجبه، حتى تحقق أملك ولا تخيبه..
لم تعطه الفرصة لكى يعترض .. فهى تعرف أن اقتراحها قد وافق رغبته وهواه.. فأرادت هى (بيدها لا بيد القدر) أن تختار بنفسها من تحقق له مناه .. رغم كل النار التى تتأجج فى داخلها .. واليأس والخوف الذى يعصر قلبها ويشعل نيران الخف من فقده بين ضلوعها.
قال الراوى
بعد أن زوج الامير مهذب ابنته هذبا من ضيفه وحبيب قلبه المنذر وارتاح من هم الفرسان المرفوضين، الذين شفوا من ألمهم وحزنهم الدفين، بعد أن صارت لرجل يحبونه أجمعين.
أقام لهذا الليالى الطوال الملاح التى قضاها الجميع فى سرور وإنشراح .. إنزاح عن قلبه الهم الوحيد الذى كان ينغص عليه حياته ويحرمه من فرحته أن يقفز كالأرنب فى مرح بسبب الهم والقلق الذى كان يعصر قلبه كلما لاحظ نظرات الغضب والغيرة التى يتراشق بها الفرسان العرسان المرفوضين.
الآن صارت هذبا زوجة للمنذر ولا سبيل إليها، فارتضى الجميع حكم القدر .. الذى دبره لمهذب كى يجعل الأمر عليهم جليلا .. والطمع فيها مستحيلا..
بعد ذلك أعلن أنه يجعل من صهره المنذر حاكما مكانه وأميرا يعلو بهم شأنه فهل من معترض .. أو طامع؟
كان الجميع قد أحبوا المنذر فبايعوه. حتى أولئك الذين كانت لديهم بعض المطامع لم يجدوا بدا من أن يؤيدوه..
وألبس المهذب الأمير المنذر لباس الإمارة وألبسه الخاتم وسلمه الإشارة وطلب منه أن يقسم ويعاهده أمام الجميع أن يحكم بالعدل والإنصاف .. وألا يبيت فى أرضه كما كان فى عهده جائع أو خواف..
وجلس المنذر على كرسى الإمارة وأظهر الكثير من المهارة والجسارة.. فأكرم العربان والرعيان وزارعى البساتين، وحكم بما يمليه عليه العقل والدين.. فانقاد له العباد وآمنت البلاد..
لكن حنينه للولد كان ينغص فرحته .. وينقص من راحته، حتى كانت تلك الليلة التى كاشفته فيها زوجته بأنها تعرف سر حزنه .. وشوقه لابنه .. وأنها عاهدت نفسها أن تزوجه بمن تهبه الولد بأمر الله.. لأنها لمتعد تحتمل أن تراه يتعذب، وهى ابنة المهذب الذى لم يكن يحب الحزن ولا القلق .. ويتمنى أن يظل طوال الوقت يقفز فرحا كالأرنب من مرح ونزق..
أدعو الله وصلوات على خير من خلق.
ذهبت هذبا متنكرة فى زى ملك من ملوك الشام.. قاصدة بلاد السرو، واستقبلها الملك الصالح ملك بلاد السرو بكل إجلال واحترام.. واقام الولائم التى تليق بما عرف عنه من كرم. ولما انتهى الطعام. ودار بينهما الحديث والسمر والكلام .. أعجب الملك الصالح بذلك الملك الجميل الشديد الذكاء والفصاحة..
ولذا لما وجد الملك المتنكر الفرصة فاتح الملك الصالح وطلب منه يد ابنته..
ورد عليه الملك الصالح أن الأمر يحتاج لمعرفة رأيها.. وأخذ موافقتها .. لكن هذبا المتنكرة .. أصرت على أن تحصل على موافقته أولا.. لأنها بعد ذلك سوف تحصل على موافقة عذبا، وهى متأكدة من موافقتها..
ازدادت دهشة الملك الصالح..
واضطر أن يقول أنه موافق .. ولا يجد مانعا..
فقالت هذبا وهى تنزع ثياب تنكرها وتكشف عن شخصيتها:
- الآن اطمأن قلبى .. لكنى سأقوم الآن لأقنع عذبا .. فنحن النسوة نفهم بعضنا جيدا..
لم ينطق المالك الصالح بكلمة، وازدادت دهشته فلم يستطع أن يعبر عما أحس به من هول .. خاصة وقد استطردت هذبا مبتسمة:
- لست أنا الذى يطلب يدها طبعا يا سيدى.. إنما أنا أريدها زوجة لزوجى.. فهل تعطينى الفرصة أيها الملك الصالح..
ظل الملك الصالح مندهشا ذاهلا. لا يستطيع النطق بكلمة .. فقد كان الأمر غريبا وعجيبا.
امرأة تسعى لتزويج زوجها..
- إن هذه غاية العجب .. ولم تسمع من قبل به العرب..
لكنها عندما شرحت له الأمر أكبره وأكبرها .. ودعى ابنته وأحضرها .. ولم تفهم عذبا تماما وكادت أن ترفض لولا أنها أحست بصدق نوايا هذبا.. وقوة إقناعها.. فكتمت الخوف الخفى فى قلبها .. فما من امرأة ترضى أن يشاركها أحد فى رجلها .. فما بالك والمنذر كان له بطلها وحبيب قلبها…
لكن الفتاة الرقيقة لم تستطع إلا أن تصدق أن هذبا تقول الحقيقة..
والحقيقة أن عذبا كانت قد سمعت بالمنذر وحكاياته، وأعجبتها بل وملكت قلبها مغامراته.. لذا أزاحت قلقها جانبا.. ووافقت على أن تصبح زوجة لزوج هذبا وأن تشاركها فيه المحبة.. بعد أن أقنعتها وفتنتها .. إذ جاءت بنفسها وطالبتها .. وفى موكب عظيم أصحبتها .. لتكون زوجة لزوجها. عسى أن تحقق له الحلم الموعود.. وتأتى له بالمولود..
وزفت عذبا للمنذر .. كما هو مكتوب ومقدر.
وعندما هم الملك الصالح بتوديع ابنته، بعد أن تركها أمانة بين يدى المنذر وزوجته، وجدت نفسها وقد غلبها قلق خفى .. وخوف لا تدرى مصدره .. تهمس لأبيها بصوت لم تخفى عليه رعشته:
أبى .. أرجوك أن تزورنى بين وقت وآخر.. فمهما كانت فروسية زوجى طيبة قلب زوجة زوجى .. فإنها ستكون لى ضرة!، وأنا أخشى الخفى فى قلبها، مهما أظهرت لى من المحبة والمسرة.