بداية سكة الغربة

بداية سكة الغربة
مضت الأيام بهلال بن عامر وعشيرته فى رحاب الدعوة الجديدة رخية هنية.. فما كانوا يخرجون لقتال إلا لنصرة الرسول والدعوة للدين الجديد الذى آخى بين العرب.. ووحد قبائلهم.. ووضع شريعة جديدة تقوم على التسامح والمساواة.. فكل الناس عبيد لله وحده.
ولا ملك إلا لرب العالمين وما الأرض والإبل إلا وديعة أعطاها الله. رهينة بحسن إرادتها ليعم خيرها على الجميع.. واستقر الأمر لهلال وعشيرته فى وادى العباس الذى سمح الرسول عليها السلام لهم بالاستقرار فيه..
وسمع كثير من العربان بكرمه يتمنى البشر أو كما يرغبون إذ للقدر تصاريف تقلب المصائر وتكشف السرائر..
فلله فى خلقه شئون. كما يقولون..
لقد توفى رسول الله … وعادت الجاهلية الاولى تطل برأسها..
واختلف الأنصار والمهاجرون واشتد الخلاف .. وكاد الأمر أن يفلت ليعود المشركون.. لولا حكمة صحاب رسول الله وتحكيمهم للعقل، فقضوا على الفتنة فى مهدها.. وجيش أبو بكر الجيوش لردع المرتدين وبينهم مسليمة الكذاب فى شرق الجزيرة.. وكان قد ادعى النبوة والتف حوله الكثيرون من الذين قضى الإسلام على تحكمهم .. وساوى بينهم وبين ما كانوا عبيدا دعى لتحريرهم من العبودية.. وصار عمل الإنسان هو نسبة.. ولا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى .. كذلك خرج على الإسلام الذين ارتبطت مصالحهم بالدين القديم..
وأبلى هلال بن عامر وعشيرته بلاء حسنا فى نصرة الإسلام .. وظل يقاتل حتى أخمدت الفتنة.
ولكن الحرب مريرة وتترك فى القلوب جراحا لا تندمل.
لقد أطلت الثعابين القديمة برؤوسها ونفثت سمها فى قلوب مازالت خضراء لم تتخلص بعد من بذور الفتن القديمة .. ولا نزعت ثوب القبيلة البالى كله بعد. وعاد للمنتصرين إحساسا بالتميز، عادت تصرخ فى العروق التى لم تتطهر جيدا من رجس الشرك جراثيم القبيلة والجاهلية الأولى. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
قال الراوى..
كان المنذر بين هلال بن عامر وولده الوحيد فارسا شجاعا حلو الشمائل ذاع صيته فى البادية والحضر.. وفاق أقرانه فى استخدام السلاح .. وفنون القتال كرا وفرا..
وكانت له جماعة من أصحابه يشاركونه مغامراته ونزواته ويزينون له حماقاته .. ولأنه الابن الوحيد لأبيه.. فقد كان له كل ما يبغيه .. ولذا صار بين الأولاد شديد العناد..
وذات يوم كان عائدا من رحلة صيد وقنص وطراد .. تمتع فيها وأصحابه بمطاردة الفرائس ين الجبال والوهاد.. إذا رأى فتاة ذات حسن وجمال.. تسير وسط رهط من صاحباتها ذوات الدلائل.
فأحس أن سهام عيونها قد رشقت فى ود وحنان قلبه..
فسأل صحبه .. فقالوا له أنه ابنة "قاهر الرجال" وأنها كبنات عشيرتها تميس بالحسن والدلال.
وإن كانت أجملهن على الإطلاق .. فعاد مهموما تعصر قبله الاشواق .. حتى دخل قصره وقد فقد حذره.. وطلب من والده أن يزوجها له على الفور..
لكن والده عندما عرف من هى استشاط غضبا .. ونفر فى وجهه عرق الجهالة القديم وقال غاضبا..
- أتريد وأنت ولدى الوحيد ، أن تتزوج إمرأة من سلالة العبيد.
ونسى هلال غمرة فى الجواب والسؤال .. ما يعنيه هذا الكلام.. ونسى أيضا ما علمه إياه فى الإسلام .. ولم يذكر سوى أنها من سلالة جساس بن مرةا لكلبى قاتل كليب التغلبى.
دهش الفتى الذى تربى على العقيدة الجديدة، من حديث والده عن الثارات التليدة..
ها هى المأساة القديمة تطل برأسها كالأفعى .. وعاد التناهى بالنسب والحسب بخنجر الجاهلية يطعن مبادئ المساواة فى مقتل .. وكأنه كان شبحا غارقا فى النوم إلى حين مؤجل..
صرخ متكدرا من قول أبيه:
- لا .. لا تقلها..
وانزع من النفس الأبه ياأبى وهم القبيلة..
ليس لى فى الحب حيلة..
أشتد غضب هلال بن عامر وأسودت الدنيا فى عينيه، فإبنه الوحيد لا يستمع إليه.. ويريد أن يتزوج فتاة من الأوباش .. ونسى أن الإسلام قد ساوى بين البيض والأحباش .. لكنها الجاهلية القديمة .. أفقدته الرؤية السليمة. وأسلمته للمشاعر القيمة .. فسب ابنه وصب عليه اللعنات.. وطرده شر طردة إلى الفلوات.. وكأنما لا تربطه به أعز وأنبل الصلات. وكاد فى غضبته أن ينسى إسلامه ويستعين بالعزى واللات .. كفاكم الله شر الغضب الجهول .. عندما يعمى القلوب ويلغى العقول..
غضب المنذر وخرج من وادى العباسى .. وهو لا يصدق ما سمعته أذناه.. ورأته عيناه .. فها هو أباه يأبى أو يزوجه حبيبته، لأنها من سلالة كلبية وهو من أرومة تغلبية.. ها هى الجاهلية تعود لتفرق بينه وبين أحبائه .. وهو لن يخضع لها.. وسيخرج عليهم جميعا لينتقم من المنافقين الذين يبطنون خلاف ما يهرون ويقولون ما لا يفعلون..
إجتمعت حول المنذر جماعة من اصدقاء صباه وشبابه، أولئك الذين شاركوه نعمة بنوته لهلال بن عامر وصاحبوه فى أيام أعز أبيه.. لكنهم كانوا يحبونه هو.ويجبون به لفروسيته، ويحفظون له أنه كان لهم صديقا ورفيقا اكثر منه قائدا. فتبعوه .. وغضبوا لغضبه.. وأصبحوا جماعته وعصابته..
قطعوا معه طريق القوافل .. وأغاروا على القبائل.. حتى ارتفع صراخ الإحتجاج عليه هنا وهناك.. خاصة بعد أن اشتهر والتحق به كل من له ثأر عند قبيلة.. أو من له مطلب حرمه منه شيخ كهلال .. أو من يرغب فىأن يجد قوت المرأة والعيال.. وسدت فى وجهه دروب الرزق الحلال.
ولم يجد المعتدى عليهم من رجال القبائل وأصحاب القوافل إلا أن يتفقوا على الذهاب لهلال بن عامر يستنجدون به ليوقف ابنه عند حده.. ويحميهم من عدوانه.
استقبل هلال واستمهلهم حتى يعرض الأمر على رجاله.. ووعدهم أن يرد عليهم حتى ولو عوضهم عن خسائرهم من أمواله..
أخذ هلال بن عامر يفكر وهو جالس وحده فى شرفه قصره، فيما وصلت إليه الأمور.. وأخيرا أملى رسالة على كاتبه إلى ابنه، قال له فيها:
"يا بنى لقد زدت على الأوجاع.. فلماذا تزيد من سود الأوضاع.. كانت سيرتنا بالخير على كل لسان.. فرسان شجعان ينصرون المظلوم ويقيمون العدل أينما يحلون.. لم يكن النهب والسلب من شيمنا نحن الذين نصرنا الرسول..
فارجع عما تفعل واعقل .. واعمل حساب يوم للحساب مهول لا يؤجل"
وبعد أن طوى الكتاب اعطاه لنجاب اسمه بلال وطلب منه أن يهود بالجواب فى الحال.. ولكن عبده بلال لما وصل إلى حيث المنذر، وجده مع جماعته يشربون ويصخبون فتقدم إليه وعرض الرسالة عليه، ولكن المنذر لم يمهله لحظة حتى ليقرأها، بل اختطف الرسالة ومزقها. وكان أن يقتله، لولا أن منعه عنه أصحابه.. على الأقل لكى يحمل إلى هلال ما يحويه جوابه..
وحينما عاد العبد إلى هلال بجواب ابنه.. ازداد غضبه، لأنه كان يتمنى أن يعود إليه ولده.. فلما وجده مازال على حاله.. حز فى قلبه مقاله..
وطلب شورى عشيرته .. فنصحوه ألا يخرج لقتال فلذة كبده .. وأن يترك المعتدى عليهم من رجال القبائل والقوافل يستعيدون ما أخذ منهم بالقوة .. فهم كثرة وأنبه وجماعته قلة.
وبالفعل اعتذر بعدم قدرته على مقاتلة فلذة كبده .. وكتم فى نفسه وهو كظيم .. لأنه ترك أعداء ابنه يفعلون به ما يستطيعون.
قال الراوى ….
اجتمع على قتال المنذر خمسة آلاف من رجال القبائل وعبيد أصحاب القوافل:
وحاصلوا المنذر فى الوادى الذى فيه يقيم. وفاجأوه بالغارة من كل ناحية كالصاعقة ودحرجوا على معسكره كتلا من النار الحارقة.. فكانت المفاجأة كاملة شاملة.. لم يستطيع المنذر ورجاله إلا أن يولوا الأدبار.. خوفا من الدمار.
بينما حرر المنتصرون الماسورين من أهلهم .. وجمعوا ما سرق من أموالهم. وعادوا سالمين غانمين وتشتت رجال المنذر وفروا هاربين ..مختلفين ورائهم الكثيرين ما بين أسرى وجرحى ومقتولين.
وأصر كبيرهم أن يرسل إلى هلال بعض القتلى والأسرى .. ليكونوا أمام بقية الخلق عبره….
وحكى بعضهم لهلال ما جرى وما آل إليه حال ابنه الوحيد .. فبكى هلال وأقر بذنبه وأرسل وزيره ليعود بإبنه الشريد..
ولكن الوزير وصل متأخرا .. إذ كان المنذر قد شد الرحال إلى الشام والعراق مهاجرا..
فأرسل وراءه من يتقصى أخباره .. ويعرف إلى أين كان مساره .. فعاد إلى هلال بما حصل عليه من أخبار.. فظل يبكى ابنه الوحيد الغريب ليل ونهار..
ندم هلال ندما شديدا .. لأنه كان إلى هذه الدرجة عنيدا.. خاصة وقد اعترف أنه جانبه الصواب وجر على نفسه وابنه الخراب، فحين خضع واستمع إلى نداء الجاهلية الأولى..
ورفض أن يزوجه من الفتاة الكلبية بحجة أنها من سلالة الأوباش.
وأخذ يصلى ويدعو الله أن يتوب عليه … وأن يجنب أولاده المصير الذى ساق إليه أبنه الوحيد، الذى هو بالتأكيد مثله عنيد..
فكتب بيده على نفسه وعلى أهله الغربة والتشريد.