زمار الحى لا يطرب حكاية سالم الشاعر

زمار الحى لا يطرب
حكاية سالم الشاعر
قبيل الفجر..
خرج الشعراء الثلاثة.. فلاح بن راشد وأخوه سالم وصديقهم اللدود فراج ابن السوداء من خيمة المغنية هند البصرية.. وقد أفلسوا تماما ولكنهم كانوا فى غاية النشوة والمرح..
لقد صرفوا كل ما معهم وصاروا يا مولاى كما خلقتنى، ولكن ما الجديد فى ذلك وهم دائما كذلك.. أنهم قضوا ليلة لن تتكرر مع موسيقى هند الساحرة التى تنطق الجماد وتحرك الحجر.. وأكلوا من الطعام أشهاه، وشروبوا من الشراب أحلاه..
هكذا كانت حياتهم وستبقى هكذا إلى يوم الدين..
-آه.. لا تذكر الدين.. ياسالم.. فأنا مدين بألف لابن البكرية.. ولو شم رائحتنا ستجده أمامى الآن يجرنى للقاضى..
ضحك الثلاثة وهم يتساندون ويتضاربون ويطارد بعضهم بعضا وقد ملأوا الليل صخبا وضجيجا..
هش.. هش.. لقد اقتربنا من بيوت الأمير جابر.. ولو سمعنا نضحك لأمر بجلدنا.
-هش.. هيا.. بنا ندخل عليه لنمدحه..
-أتريد أن تثكك أمك.. يا كاره أمك..
كادت ضحكاتهم أن تفضحهم.. لولا عاد كل منهم ليسد فهم الآخر.. وهم يسرعون بالابتعاد إلى حيث يأمنون ألا يعترض طريقهم أحد قال سالم.
-اسمعوا لقد جائتنى فكرة لو نفذناها لامتلأت سراويلنا ذهبا وفضة..
ضحك فلاح:
-طوال عمرك وسراويلك تمتلئ..
ضربة سالم فوق رأسه.. فضحك فراج وحال بينهما. ولم يكمل فلاح بل طوحت به الضربة، فاحتضن نخلة قريبة سقط تحتها وهو يضحك..
-لم أكن أعنى ما أغضبك أيها القذر.. إن أفكارى أنظف من ذلك كثيرا.. ولكن نفاية ولا تفكر إلا فى النفايات..
-اسمعوا.. أنا أتكلم بكل جدية.. افهموا.. وعدونى أن تطيعونى..
وما الجديد فى الأمر.. طوال حياتنا ونحن نطيعك كعبيدك.. ألم نطعك وذهبنا لمدح ذلك الأمير القبيح الوجه ابن خزيمة.. فجلدنا..
كان تذكر هذه الواقعة بمثابة بركان من الصخب والهرج.. لا حدود له هز سكون ليل الصحراء.. بقهقهات كقهقهات الشياطين المرحة.. الضاحكة.. وهذا بالضبط ما جعل الحراس ينكمشون بل ويبتعدون عن مصدر هذه الضحكات المهولة المجهولة..
-هل كان من الضرورى أن تصفه بالأسد الغضنفر.. فى حضور زوجته..
-لقد ظنت أنك تعرض بها..
-لا .. وقلت له.. وجهك كالبدر فى الظلماء.
-كاذب.. من أصل وجهك..
-لا .. من أصل وجهه..
-ولكن هذه المرة.. عندى ما يعوضكم.. أقسم لكم أننا لن نفلس بعد اليوم.. صدقونى فأنا من فترة وأنا أتقصى حقائق القصة التى سأرويها لكم.. وقد وصلنا لطريقة تجعلنا أغنى شعراء البادية.. والحضر أيضا..
- أية قصة؟..
- قصة أميرنا جابر..
- مرة أخرى.. أسمع.. كفى ما لقيناه الليلة من إفلاس.. واتركنى أذهب لأنام..
-لا نكن عجولا.. فالأمر لا يخص جابر.. ولكنه يخص أخاه جبير..
-وأين هو أخاه.. يا أخى.. يا ليتنى فعلت معك ما فعله جابر بأخيه.. كنا الآن ننعم برضى العيش بعيدا عنك..
-لا.. كنت أنا الذى سيعيش ملكا.. لو كان حظى كحظ جبير..
-حظ؟.. لا.. الأمر فيه ما فيه.. اهدأ يا فراج ودعنا نسمع له هذه المرة ولتكن الأخيرة..
-كل مرة تقول أنها الأخيرة..
-هذه المرة.. أخيرة.. أى أخيرة.. فليس لدينا ما نفعله سوء هذا.. ما هى القصة؟
-كتبت قصيدة فى مدحه، ولكنى حكيت فيها كل ما عاناه من غربة وقسوة.. وكيف جاءه الفرج بعد الشدة.. ولكنى ضمنتها ما يوحى بأن قدره.. إنما هو طرف من قدر أجداده.. وقلت فيها أنه سيكون رمز انتصار وسعد أهله.. منذ جده هلال إلى الأبد.. وضمنتها ما تحمله فى شجاعة الرجال هو وأمه من تعب وتشريد حتى تم سعده ومجده..
-من جابر؟!.. أى مجد وأى سعد؟..
-ليس جابر يا غبى.. وإنما أعنى أخاه.. جبير..
-وأين نجده؟..
-أنا وجدته.. أنا لا ألعب.. أنتم تلهون وتعبثون وتفلسون.. وأنا الذى ينقذكم دائما..
تربصا به كعادتهما ليوسعانه ضربا.. إعلانا عن موافقتهما على خطته رغم أنهما لا يفهمان كيف ولا متى.. ولكنهما أسرعا خلفه لإعلان الموافقة بطريقتهما.. فأطلق هو كالعادة أيضا ساقية للريح.. فهو يعرف أن موافقتهما على اقتراحاته التى غالبا ما تنجح.. لا تكن إلا بعد أن يشبعا رغبتهما فى ضربة علقة ساخنة ترعب ثعالب الصحراء فى أوجارها..
قال الراوى..
منذ شهور وسالم يتقصى الأخبار.. ويسأل يتقصى الأخبار.. ويسأل الفرسان والتجار.. كان قد سمع برحيل جبير من بلاد السرو وانقطاع أخباره.. إذ هدد جابر كل الملوك والأمراء الذين بجواره.. وأنذر من يحميه أو يقويه بتخريب دياره..
ولم يكن المنذر فى صحة تجعله يفرض على جابر أن يخفف من غله أو أن يأمره بترك أخيه فى حماية أخواله وأهله.
وعرف سالم بما جرى مع جبير.. ونجدته لأمير نجد وانتصاره على الجليلى.. وما حدث من زواجه من بنت النعمان ابن حنظل التى كانت أجمل بناته.. وكيف انتشرت أخبار كرمه وبطولاته..
فاقنع صاحبيه.. وشدوا ثلاثتهم الرحال إليه.. وكان قد نظم عنه قصيدة عصماء.. يحكى فيها قصة جده الكبير هلال.. وما جرى له مع المنذر سيد الرجال.. وكيف أن لعنه بنت رسول الله على سلالته بالتشرد والشتات.. ودعوتها لهم بالنصر والثبات.. ومازالت تحكم تصرفاتهم.. وتلون بالفرحة وبالحزن حياتهم..
فلما دخلوا على جبير وأنشدوه أشعارهم عرفهم جبير، فأخذ يسألهم عن أهلهم وديارهم، وأصر على أن يستضيفهم لأربعين ليلة كاملة، شهدوا فيها صنون الكرم والإكرام.. ما لا ينسى على مر الأيام..
وفى النهاية سمح لهم بالذهاب بعد أن أعطاهم عطايا تأخذ بالآلباب، فخع عليهم ثلاث خلع.. غاية فى البدع.. وأعطاهم ثلاثمائة جمل. كل جمل محمل بما حمل.. وثلاثمائة رأس من الخيل الأصيل.. التى تتقاتل فى سبيلها القبائل. هذا غير الدنانير التى تقلي بمكانة الأمير جبير. وعاد الشعراء الثلاثة وهم لا يصدقون.. أن خطة سالم وقصيدته لن تدعهم بعد اليوم يفلسون..
ولما عادوا للديار انتشرت عن عودتهم الأخبار حتى وصلت إلى جابر فاغتاظ وثار.. وخاصة عندما رأى الناس يتحدثون عن كرم جبير، الذى رأى منه هؤلاء الشعراء الكثير.. وكان غضبه أكثر لأنه أحس أن جبير لم تبتلعه الصحراء.. وأنه هو الذى يتحدثون عنه.. وأنه رغم ما فعله معه نجا وفاز.. وصار على هذه الدرجة التى يلهج بالثناء عليها الشعراء..
فأمر بإحضارهم ليتحقق بنفسه من أخبارهم.. فقال لسالم:
-أرأيتم.. أخى جبير.
فأسمعوه أشعارهم.. طلبا لرضاه. وللتخفيف من غضبه.. وطمعا فى عطاياه.. ولكنهم عندما أعادوا على مسمعه.. ما رأوه من كرم الأمير جبير أمير نجد، وما له من هيلمان وسلطان.. صاح بهم:
-ليس عندى لكم سوى الجلد والقتل.. فكيف تقبلون الهدايا من الأعداء..
ولولا أن أبوه تحامل على نفسه وحضر المجلس لفعلها.. وجر على نفسه وعلى أبيه العار.. قال المنذر:
-لقد تماديت يا جابر.. منذ سنين وأنا صابر.. طردت أخاك وأغضبت أمك.. وتأتى الآن تريد أن تجر علينا عار العرب.. فتهين الشعراء وتفكر فى قتلهم.. والله.. الذى نفسى بيده لو كنت بصحتى لأطحت برأسك أنت.
فاعتذر للشعراء على الفور..
وهنا قال سالم:
-ياسيدى المنذر.. اسمح لى أن أقول لك أننى تأكدت أن جبير هذا هو جبير ابنك.. فلقد أنشدته قصيدة تحكى قصتك مع والدك.. وكنت أريد أن أرى تأثيرها عليه.. فإذا به عندما سمعها يبكى حتى سالت الدموع أنهارا من عينيه..
حاول جابر أن يضرب الشاعر سالم ليسكته.. لكن أبوه قفز من فراشة ومنعه، بل ولطمه لطمه أخرسته، وكأنما عادت إليه صحته وفتوته..
مما أخرس لسان جابر فلم ينطق بكلمة.. حتى عندما رأى المنذر يسير على قدميه.. ويجلس على كرسيه، ويأمر على الفور بشد الرجال لكى يكحل عينيه برؤية ولده الذى رأى على يد أخيه أهوال الغربة والتشرد.. مثلما ذاقها هو على يد والده هلال.. لكنه لن يسمح للأب فيه.. أن يقسموا كما قسا عليه فؤاد أبيه..
قال الراوى..
ثم أن المنذر ركب وركب معه مائتان من الأبطال ومائتان من الجمال محملة بالأحمال.. طالبا بلاد نجد ليرى ابنه جبير وليعتذر له ولأمة عذبا.. عما فعله بهما جابر ابن هذبا.. التى طلبت أن يأخذها معه لكى تعلم عذبا أنها برئية مما ارتكبه جابر من أفعال دنيئة..
وما أن اقتربوا من نجد حتى أرسل المنذر الشعراء الثلاثة ليخبروا الملك جبير بقدوم أبيه إليه.. ليعتذر له وليكفر عما لا قاه بسبب أفعال أخيه..
وأمر الملك جبير أن يخرج فى موكب عظيم لاستقبال الضيوف.. وحوله ألف من العساكر بالرماح وبالسيوف.. يحيطهم ضاربى المزامير وناقرى الدفوف.. وسار إليهم وقابلهم فى منتصف الطريق.. مقابلة الصديق للصديق.. التى هى أطول عمرا وأبقى على الدهر من لقاء الابن بأبيه أو الشقيق للشقيق..
وبعد أن سلموا على بعضهم وسط بكاء الفرحة ونحيب الشوق.. نزلوا عن الخيول.. وتعانقوا حتى جفت العبرات.. وعادت الأنفس راضيات غافرات. وبعد أن ارتاحوا من عناء الطريق، دقت الطبول ونفخت الزمور وشدوا الرحال إلى بلاد الملك جبير..
واعتذر المنذر لابنه وغفر الابن لأبيه.. وتعاهدوا على نسيان ما فات. وأن يصلح السلام بينهم ما هو أت.. فهل يا ترى تتحقق الأحلام.. وتسمح الأيام.. وهل إذا غفر المظلوم للظالم.. يكف الشرير عن فعله الغاشم..
صلوا على سيد "بنى هاشم". وادعوا الله أن يجمعنا فى سلام.. لنكمل الكلام والنظام.
فارس بنى زحلان
قال الراوى..
صلوا على الرسول خير الأنام.. الذى بذكرة يحلو الكلام.. ويفتح لنا باب القبول ويكتب لنا بالوصول، وقولوا معى يا سادة ياكرام.. يبحان من له الدوام.. من ضرب لنا الأمثال بالأقوال وبالأفعال، وجعل التاريخ وحكايات الأبطال عبرة لبنى الإنسان، وعلمنا أن نستعيد ما كان.. كى نستفيد من صراع الخير مع الشر، والقديم مع الجديد.. لنستعد بعقل سليم وعزم شديد لمستقبل الأيام، ونحقق الآمال والأحلام.. ونبنى للأطفال العالم السعيد..
لذلك يا سادة يا كرام سنحكى ونعيد حكايات فارس الفرسان، ومغامرات بطل الأبطال: بركات، سلامة الهلالى، أبو زيد!!
معركة لا تسيل فيها الدماء
كانت الأرض المنبسطة تبدو كساحة قتال عنيف لا يهدأ، وإن كان قتالا بلا ضحايات، لا تسيل فيه الدماء.. كان الشباب من أبناء قبيلة "الزحلان" يتدربون على فنون القتال، تحت إشراف معلمهم الفقية العجوز "ابن الخطيب" الذى كان يدور كالنحلة بينهم، ملقيا بتعليماته، منبها أحدهم لخطأ قاتل، أو معدلا وضح رمح فى يد آخر، أو معترضا على طريقة ثالث فى الاشتباك..
وكان صوته المشروخ المثير للضحك هو الصوت البشرى الوحيد الذى يرتفع وسط صليل السيوف وطقطقة الرماح، واحتكاك العضلات بالعضلات، أو ارتطام القبضات بالرءوس، أو اصطدام الأجساد بالصخور والأرض الصلبة.
فى السماء، كانت الطيور الجارحة تحوم فى صمت وقد خدعتها الأصوات والآهات، فنت أنها معركة بعدها وليمة من الضحايا.. فمضت تدور فى سماء الساحة فى تربص وجشع، دون أن تعلم أن تلك ساحة تدريب، لا تخلف أشلاء ولا تسيل فيها الدماء.
مضت الساعات وأبنا قبيلة الزحلان لا يتعبون، إذ كانوا يعرفون أن مكانة قبيلتهم وسط القبائل، فى تلك الصحراء القاسية، مرهون باتقانهم فنون القتال، وكان لديهم إحساس غير قليل بالعار لأن ملكهم إضطر منذ سنوات، أن يقبل مرغما دفع نسبة فادحة من أموالهم وأنعامهم، إلى عدوهم اللدود (أبو الجود) بعد أن هزمهم وأجبرهم على التزام حدود وادى الدقائق ووادى النسور، تاركين الأرض الخصبة مكتفين بالأراضى البور.
كان أبناء الزحلان يدركون قيمة مال يمتلكه ذلك العجوز الماكر، والذى يتولى تدريبهم، ويعرفون أن حريتهم مرهونة بأن يستوعبوا ما لديه من علوم وخبرة.. فى فنون القتال.. لذلك كانوا يطيعونه ويحبونه، وإن لم يخل الأمر تماما من محاولتهم السخرية من طريقته فى نطق الحروف، خاصة عندما يغضب، فكانوا يقومون بتقليده فى أسمارهم خفية عنه طبعا.. لأن أقواهم ما كان يصمد أمامه لحظة، رغم كبر سنة وضآلة حجمه إن أراد يعاقبه، أو يلقنه الأدب.
قال الراوى..
وحده "بركات".. كان يستطيع ذلك..
ترى هل كان ذلك لأن بركات الذكى الماهر كان أحف حركة منه، ويستطيع تفادى حركاته الماكرة المفاجئة، ويتوقعها قبل أن توقع به، بطريقة يبدو معها التلميذ، أكثر من أستاذ مهارة.. أو ند له حين يتصدى له بجدارة..
أم لأن ابن الخطيب كان يتسامح معه، لأنه أحب أبناء الملك الزحلان إلى أبيهم.. أم لأنه يحبه بالفعل ويجد فيه تلميذه النجيب، لذكائه الشديد ورأيه السديد، وقدرته على استخدام عقله، بنفس القدرة على استخدام عضلاته وسيفه الحديد..
إكتسب بركات هذه المكانة فى قلب معلمه منذ أحضره إليه الملك الزحلان ليتولى تدريبه وتعليمه منذ أكثر من خمس سنوات وكان صبيا ما يزال.. يومها تعجب الفقيه قليلا لأنه لم يسمع باسمه من قبل كأحد أبناء الملك. لكنه حين حاول أن يسأل عن ذلك، نهره الملك بشدة قائلا:
-أن هذا الأمر سر شخصى للملك وحده..
فابتلع المعلم لسانه، وطوى الشك فى قلبه، وتعامل مع بركات على أنه أحب أبناء الملك إليه دون أسئلة..
كان للملك الزحلان ولدان آخران، هما منعم ونعيم يتعلمان فنون الحرب، وبتدربان على القتال، مع أخيهما بركات.. وذات يوم، أراد الشيخ أن يعاقبهما بالجلد لخطأ جسيم ارتكباه.. لكن بركات أشفق عليهما.. وتحمل الضرب بالسوط عنهما، دون آهة ألم واحدة.. مازاد إعجاب معلمه به، وزاده قربا منه، حتى صار يعهد عليه بمتابعة تدريب أقرانه، حيث يغيب لشأن من شئونه.
وزاد الأمر بينهما توثقا، بذلك الاتفاق الطريف الذى عقده بركات معه، يوم ساومه فى مرح:
-دينار ذهبى كل يوم.. فى مقابل أن تعلمنى لسان الفرس والترك والأكراد.. ولهجة البربر ولغة الطليان..
-دينار ذهبى؟
-ذهبى!!
-كل يوم؟!
-كل صباح.. وأيضا تلقننى أسرا الصباغة والصناعة وعلوم الكيمياء.
دهش اين الخطيب وقال:
وكيف تستطيع أن تستوعب كل هذا؟ وأنت تتدرب على فنون القتال والحرب؟
ضحك بركات وقال:
-هذا شأنى يا صاح، ودينار ذهبى لك كل صباح..
وقبل الشيخ الاتفاق، فى البداية على سبيل الفكاهة، كان يتصور أن بركاتا سوف ينسى بعد فترة تلك العلوم الصعبة، وسيمل منها، ويشغل كغيره من الشباب فى اللهو واللعب، والطعام والشراب، بدلا من إرهاق عيونه بالورق والكتاب..
ولكن بركات لم يغفل، وظل على مثابرته فى استيعاب فنون الضرب والحرب والفروسية، بقدر اندماجه فى دراسة الكيمياء والصباغة واللغات الأجنبية..
وكل يوم كان الرجل يضع الدينار الذهبى فى كيس خاص يزداد بمرور الأيام إمتلاء فى الوقت إلى يزداد معه حبه لبركات، الذى كان يزداد كل يوم شجاعة وذكاء..
أخر الدنانير
-بركات… بركات.. أدركنا يابركات..
رددت الجبال المحبطة بالوادى صرخة، الرجل ، الذى جاء منطلقا فوق حصانه، مخترقا ساحة التدريب.. توقف اللعب فجأة حتى أن بركات نسى أن ينزل الرجل الذى كان يصارعه، وظل يرفعه فوق رأسه لفترة قبل أن يلقى به وهو يحدق فى القادم الضارخ… وأقترب منه الشيخ ابن الخطيب مستطلعا الأمر، حتى وصل الرجل فنزل من فوق حصانه.. واندفع نجو بركات..
-أسرع يا بركات.. لقد فاض الكيل بأبيك الملك.
-ماذا حدث؟
-تمادى أبوالجود يا بركات، وتعدى حدود الأدب.
هل هاجم مضاربنا..؟!
-يا ليته فعل.. ولكن الأدهى من ذلك أنه تعمد إهانة ملكنا والإساءة إليه!
بكى الرجل، وهو يقول ذلك فأخذ بركات يربت على ظهره مهدئا..
-اهدأ.. واحك ما حدثز. دون زيادة..!
-لقد أرسل أبو الجود عبدا حقيرا من رعاة الغنم برسالة لأبيك، ينذره بدفع ما قرره علينا من أموال فى الحال.. وإلا.. دمر مضاربنا وأحرقها.
ابتسم بركات ليخفى غيظة وإنفعاله.
-ولكن موعد الدفع لم يحن بعد، فماذا وراء هذه العجلة..؟!
-أن لهجة الخطاب المهينة أصابت والدك بأزمة، حتى خشينا عليه.. وأظن أن أبا الجود يقصد هذا تماما.. لذا تعمد تجاوز حدود الأدب..
لم يجب بركات ولم يعلق، وإنما أسرع وقفز ممتطيا حصانة دون سرج، وأرخى لجامه فإنطلق به. أشار ابن الخطيب إشارة أنهى بها التدريب، واندفع الرجال على أثرها يمتطون جيادهم، وينطلقون فى أثر بركات، مثيرين عاصفة من الغبار، هيجت الطيور الجوارح مرة أخرى، فمضت تحوم صارخة فى سماء الوادى..
بينما عاد ابن الخطيب نحو كهفة المنحوت بين الصخور.. مد يده، تناول الكيس الذى يحتفظ فيه بدنانير بركات الذهبية.. فتحه فى هدوء.. وأسقط دينار اليوم مع أشقائه وتمت وهو يغلق الكيس ويعيده لمكانه..
-أنا متأكد أنك ستكون آخر دينار يدفعه لى بركات.. فقد نضج الآن، وصا مؤهلا ليتصرف تصرف الفرسان.. وصار يمتلك من الشجاعة والقوة ما يكفى، لكى يدله قلبه الكبير وعلقه الراجح.. على الفعل الصحيح لفارس نبيل..!
عفوك يا ملك زحلان
قال الراوى..
وصل بركات إلى مضارب الزحلان فقفز من على حصانة وانطلق إلى داخل خيمة الملك مزيحا من يقابله من الحراس وهو يزمجر غاضبا..
وما أن رأى المنظر الذى أمامه حتى انفجر غضبه فى آهة زلزلت أركان المكان.. كان الملك زحلان جالسا ينتفض من الغم والكمد وحوله رجاله المقربين عاجزين لا يجزؤن على الكلام بينما يقف أمامهم وسط الخيمة عبد يرتدى ثيابا رثه معجبا بنفسه كطاووس أنساه غروروه ما يجب أن يكون عليه من أدب فى حضرة الملك زحلان..
أمسك بركات بخناقة حتى كادت تختنق أنفاسه.. ورفعه بيد واحدة.. وصاح فى وجهة:
-هل أمرك سيدك اللعين أن تتطاول فى حضره أسيادك أيها الوغد اللعين وأن تتجاوز حدود الأدب؟
ثم ألقى به بعيدا فكومه فى آخر الخيمة كبعض النفاية.. واندفع فتناول الخطاب من يد والده المرتعشة.. فلما قرأه ازداد غضبه وبرقت عيناه تطلقان شرر الغضب، وأسرع مكشرا عن أسنانه نحو العبد حختى ظن الواقفون أنه سوف ينهش لحمه.. ولكنه رفعه من قفاه وأخرج سيفه القصير فانطلقت آهة فزع من فم العبد المسكين.. وقام بركات بحلق فروة رأسه. ثم مزق الرسالة بنفس السيف.. وخلط الشعر بباقى الرسالة وحشاها تحت صديريته وهو يزمجر..
لولا أننى أحتاج لنذل مثلك كى يوصل رسالتى لأبى الجود.. لمزقتك إربا إربا… هيا.. وقل لسيدك الجبان.. هذا هو رد الملك الزحلان.. وقل له أن نفس السيف فى انتظاره لا ليقطع شعره فقط.. بل لجز لسانه ورقبته.. قل له يا أبا الجود لقد ارتكبت خطأ ستدفع ثمنه غاليا..
ثم حمله بقبضة يده مرة أخرى حتى أجلسه مقلوبا على ظهر حصانه.. ووكز الحصان وكزة جعلته ينطلق حرونا بالعبد المقلبو وسط ضحكات فرسان بنى الزحلان الذى كانوا قد لحقوا به لشهدوا المنظر الأخير ويهتفوا إعجابا به..
قام الملك زحلان وقد عادت الروح تدب فى أوصاله.. واحتضن (بركات) فى حب وقال له:
-يا بركات ياولدى.. لقد أعدت الدماء إلى عروقى.. الآن أطمئن لقدرة بنى الزحلان على الوقوف أمام جبروت أبى الجود.. ورد مظالمه التى طال احتمالنا لها.
وابتدأ بركات فى تجهيز الجيش.. والاستعداد للخروج لملاقاة أبى الجواد الذى لابد أنه سيستشيط غضبا عندما يصل إليه العبد المقلوب فوق الفرس محلوق الرأس ليسلمه الرسالة الممزقة..
مقتل الوزير عجير
غضب أبو الجود غضبا شديدا وأمر بدق طبول الحرب للانتقام من الزحلان وتأديب ملكها.. لكنت الوزير عجير وزير أبى الجود سأل العبد راشد عمن فعل به هذا.. ومن الذى حمله تلك الرسالة المهينة.. فقال العبد راشد:
-لم يكن الملك زحلان يا مولاى ولكن عبد أسود من عبيده اسمه بركات.
فازداد غضب أبى الجود وهب قائما ليقود الجيش ولكن الوزير أصر على الخروج بدلا منه.. لإحضار ذلك العبد الأثيم لتأديبه.. إذ لا يليق به يخرج ليطارد عبد كبركات.. ووافق أبو الجود وسمح لوزيره بالخروج فى عشرة آلاف مقاتل لأسر ذلك العبد وإحضاره حيا، ليشفى غليله..
قال الراوى..
التقى الجيشان فى أحد الوديان، واندفع كل منهما نحو الآخر اندفاع العاصفة.. واشتبك الرجال بالرجال.. والتحم الفرسان بالفرسان.. ونادى الوزير على بركات أن يبرز إليه.. فوجده يبحث عنه.. واصطدم الرجلان كالجبلين.. كان الوزير مقاتلا قديرا ومبارزا خطيرا.. فانقض على بركات فى شجاعة، وجذبه جذبة كادت تخلعه من فوق فرسه، لولا مهارة بركات وقدرته على الصمود.. فارتمى فى مرونة إلى جانب سرجه وتفادى حربة الوزير ثم استقام على ظهر حصانه وانزلق، وهو يسدد حربته إلى صد الوزير مباشرة فاخترقت جسده وهو يصيح صيحة شلت حركة الخيل والفرسان.. فوقفوا يساهدون جسد الوزير وهو ينهار ومرتطما بالصخور والأحجار.. فى منظر رهيب، أثار فزع رجاله فولوا الأدبار.. بينما تصاعدت صيحات رجلال الزحلان، فرحين مهلين بالانتصار..
وحين وصل الخبر إلى أبى الجود ركبه الهم والغم.. وخاصة عندما عرف أن العبد بركات الذى مزق رسالته، هو الذى قتل وزيره.. فصاح صيحة الحرب
وقال:
-لم يعد لك منى يا بركات مفر.. ولن يكون للزحلان بعد اليوم أرض ولا مستقر..
رب إبن لك ليس من صلبك
قال الراوى..
طلب بركات من ملك زحلان أن يبقى فى المضارب وسيكفيه هو عناء القتال ولكن الملك رفض وجمع أنباؤه منعم ونعيم، وأشقاء زوجته جابر وجبير وأمرهم باللحاق ببركات، وهو يقول لنفسه:
عشت معى يا بركات كل هذه السنين كابن لى، بل أصبحت أعز أبنائى إلى.. وأثبت لى صحة ذلك المثل الذى يقول: "رب ابن لك ليس من صلبك.."؟
ولكن، لا يجب أن تذهب للحرب دفاعا عن الأرض بدلا من أصحابها.. ليس من العدل أن تضحى أنت، بينما أجلس أنا وأبنائى فى عقر ديارنا ننتظر.. لا سنسير معك.. فمصير مشترك..
وقاد بركات الجيش حتى التقى بجيش أبى الجود.. إلى الشمال من وادى النسور وهناك تقدم وصاح بإبى الجود:
كفاك ما ارتكبت من حماقات وإهانات.. فلنحقن دماء الرجال والجنود.. ما دمت قد جئت لتأديبى، فاخرج إلى.. تقدم.. وليحكم بيننا السيف..
برز أبو الجود وصاح به:
-لن ألوث حربتى بدماء عبد نجس مثلك.. عد إلى حظائر الغنم يا كلب العرب، وأرسل سيدك ليقاتل بنفسه، إن لم يكن قد قتله الخوف.. لن أقاتك عبدا مثلك…
ضحك بركات وصاح به:
-أننى عبد بقدر ما أنت عبد لغرورك.. لست عبدا يا ملك.. أنما أنا (بركات) إبن الملك زحلان، وكفاك تهربا من الحقيقة، التى تقول أنك تكاد تنهار من الخوف..
غضب أبو الجود لقوله واندفع نحوه صائحا، شاهرا سيفه، وتطاير الشرر عندما التقى السيفان، فارتفع لهما صليل رهيب، أفزع الخيل والعقبان.. وظل الفارسان يتبادلان الضرب والطعان، حتى حل الظلام ففرق بينهما..
وما أن أشرقت شمس الصباح، حتى عاد إلى ساحة المركة، وقد تجدد نشاطهما وظل يلتحمان ويفترقان، حتى بلغت الشمس كبد السماء واشتدت الحرارة ولمعت السيوف، واستبدل الفارسان أسلحتهما أكثر من مرة، واستعملا السيوف والحراب والخناجر..
واشتبكا معا يدا بيد وذراعا بذراع أكثر من مرة.. ثم عادا إلى الخيل مرة بعد مرة.. وتعالت صيحاتهما مختلطة بصهيل الخيل وصيحات الطير وزعقات الرجال وشهقاتهم فزعا وفرحا أو غضبا، وفجأة، وفى اشبتاك عنيف أثار سحابه من الغبار، انطلقت صيحة ألم عميقة مختلطة بصرخة غضب أعلى، مما حير الجميع، وانتظروا انكشاف الغبار ليعرفوا ما جرى.. ولما انكشف الغبار، كان بركات فوق فرسه التى رفعت قوائمها تصهل صهلة النصر، بينما كان (أبو الجود) على الأرض مضرجا فى دمائه..
سكن الوادى للحظات ثم انطلقت صيحات النصر من معسكر الزحلان.. وهنا صاح بركات مخاطبا رجال أبى الجود:
-أيها الرجال الشجعان.. لم نكن نريد هذه الحرب.. لكن أبو الجود أعماه الطمع، فلم يعد يعرف قدر ارجال، ولا قيمة الأبطال.. أعماه المال، فأرسل يهين الملك الزحلان.. ولكن نال جزاءه الآن.. فهل لكم أن تستمعوا لصوت العقل.. وأن نكف عن القتل..
وشقت كلمات بركات صفوف جيش أبى الجود.. وثار بينهم جدل شديد. انضم على أثره عدد كبير إلى صفوف جيش بركت، وهم يلقون بأسلحتهم، بينما اندفع آخرون إلى القتال، فطارودوهم منعم ونعيم إبنا الزحلان، حتى اضطروهم إلى الفرار…
قال الراوى..
أمر بركات رجاله بدفن الموتى وعلاج الجرحى.. وتقدم الملك الزحلان من بركات واحتضنه مهئا بانتصاره.. ونادى فى رجاله قائلا:
-يا أبنائى.. لقد عوضنى الله فى شيخوختى بهذا الإبن البطل.. لذلك أطلب منكم.. الالتزام بطاعته، لأن سيكون أميركم بعدى.. واندفع نعيم ومنعم يعانقان أخاهما.. بينما ظل جابر وجبير شقيقى زوجة الزحلان، مترددين، والتفت جابر هامسا لجبير:
-هل صدق الزحلان نفسه واعتبر بركات إبنا من صلبه ليوليه إمارتنا. وأنا بنفسى استقبلته طفلا مع أمه عندما لجأت به إلينا وأوصلتهما إليه..
لكن جابر سارع يقول له:
-انسى هذا الأمر الآن ولا تفسد انتصارنا.. أنه هو الذى قتل أبا الجود.. وخلصنا من شره.
ابتلع جبير رفضه، واندفع مع الجميع يعانق بركات ويهنئه، ويقسم على طاعته كما أمر الملك الزحلان.
قال الراوى..
ولم يكن هناك ياسادة يا كرام.. أسعد ولا أهنأ بالا من أم البطل الهامام بركات الست خضرة الشريفة التى كانت قد وصلتها الأخبار.. فرقص قلبها فرحا بانتصاره، وراحت تراقب مظاهر الفرح بالانتصار وإلى جوارها وقف الفقيه ابن الخطيب، بعد أن سلم لها كيس الدنانير الذهبية..
وهو يقول ضاحكا:
لم أكن أستطيع أن أرفض له طلبا يا سيدتى "خضرة"، كان مصرا على أن يكافئنى، وأن يدفع أجرى.. وطاوعته وم أفش سره لأحد وظلت أضع الدينار فوق الدينار، ليكون هديتى له يوم آراه وقد اكتمل له العلم مع الشجاعة.. فاعطها له يا سيدتى هو سيقبلها منك عنى.. إنها نبوئتى وبشراى له المزيد من الزيادة والنصر حتى يعرف أهله وقدره.. وحين تطبق شهرته الأفاق فليذكر الجميع إننى كنت معلم بركات أبو زيد، وهبته علمى وهما لا يقدران بثمن.
شيحا تنقذ بركات
عين قطف الزهور
كانت خضرة الشريفة واقفة تودع فى قلق ولدها بركات، والذى كان مع أخويه، منعم ونعيم، ومجموعة من أصدقائهم يجهزون جيادهم فى مرح وصخب.. استعدادا للصيد.. فقال لها الملك زحلان:
-لا تقلقى يا ابنه الشريف، فابنك الذى قتل أبا الجود وخلص الدنيا من شرة، ولا تهزمه السباع، أدخلى ولا تخافى عليه..
قالت خضرة ضاحكة:
-أنا أخاف عليهم جميعا يا سيدى، فلهم جميعا فى قلبى نفس المكانة، إننى أستنشق بعض الهواء..
لكنها ظلت واقفة تراقبهم حتى اختفوا مع انحناءة الطريق، ابتسم الملك ابتسامه العارف أن قلبها أصبح مشغولا على إبنها أكثر، منذ أعلن أنه الأمير من بعده وولى عهده، لأنها كانت تعرف أن جابر وجبير إبنى شقيقته لا يوافقان على ذلك، إلا خوفا من مخالفته، واحتراما لإدارته. وكان يعرف أن معهما الحق فملك بنى زحلان من حق منعم أو نعيم ابنى الملك الحقيقين، لأن بركات مجرد ضيف وغيرب، وأمه تشفق عليه من اليوم الذى ينكشف فيه السر ويعرف حقيقة نسبه!
همس زحلان لنفسه:
-يا للأمهات.. أصبح ابنها فارسا وأميرا ومازالت تراه الطفل الصغير الذى جاءت لنا تحمله بلا حول ولا قوة. كفاك قلقا يا خضرة فله فى قلبى معزة تفوق معزتى لأولادى..
فجأة..
قطع عليه أفكار ضجيج وصياح استغاثة وفزع، فأسرع حراسة يستطلعون الأمر، فرأوا عدد كبيرا من الرعيان، يسوقون أمامهم القطعان، وهو يصيحون رعبا.
-أدركنا يا ملك زحلان أدركنا.. بنو هلال داهمونا وانقضوا علينا كالذئاب والنسور، وطردونا من مراعينا واستولوا على أرضينا حول عين قطف الزهور الغوث الغوث!
ولم ينتظر الملك وصول بركات، بل أمر أن يدق طبل الحرب لتأديب بنى هلال وطردهم. وخرج على رأس جيشه فوجد بنى هلال يقيمون خيامهم كأنهم ينوون الاستقرار فى المكان إلى الأبد.
فصاح فيهم:
-يا بنى هلال.. تعرفون أننى ملك هذه البلاد، وهذه الأرض أرضنا، والمراعى لنا فارحلوا فى سلام، وعودوا من حيث أتيتم. هذا خير لكم لو كنت تعقلون..!
ارتفعت صيحات السخرية والغضب بين بنى هلال.. وأسرع فرسانهم إلى أسلحتهم، ثم تقدم إليه فارس مهيب شاهرا سيفه وقال:
-القحط أصاب بلادنا يا ملك الزحلان، وقضى على الأخضر واليابس، وقد أتينا نطلب رضاكم والسماح بأن نحيا فوق هذه البطاح.. وسوف ندفع لكم العشر من إنتاج أراضينا وخير مراعينا وهذا فضل وعدل يا ملك.
وأثارت طريقة الأمير رزق الهلالى فى الكلام ضحكات ساخرة بين صفوف بى هلال، فاشتد غضب ملك الزحلان.. فقال:
-هكذا يا أمير؟ وبلا استئذان؟! تقتحمون الوديان وتطرودن الرعيان، ثم تتحدث عن الرضا والسماح.. عد من حيث أتيت يا رزق وإلا فليس بيننا سوى السلاح!
واندفع الاثنان كل نحو الآخر كالعاصفة، وعلا بينهما الغبار وثار، وظلا يتبادلان الضرب والطعن حتى انتصف النهار، فخرجت منهما ضربتان فى نفس الوقت، أما ضربة الزحلان فقد أبطلها الأمير رزق بدرعه الحديد، أما ضربة الأمير رزق، فنزلت فوق فخذ الزحلان فجرحها جرحا بليغا، ثم هبطت فوق عنق الحصان فقطعته.
فأسرع إليه رجاله يحيطون به حتى استطاعوا أن يأخذوه بعيدا عن رزق لعلاج جرحه.. واشتعل وطيس المعركة بين الجيشين.
وبينما كان الرجلل يحملون الملك إلى خيمته وصل بركات، فارتمى على صدر الملك معتذرا له، يتأسف لمصابه، وقد اشتد غضبه وحزنه.. ثم اندفع هو وإخوته كالعاصفة، يصيحون صيحات القتال للانتقام من بنى هلال.
غانم الزغبى
قال الراوى..
كان بركات يحس بالذنب لأنه خرج للصيد وترك والده الملك يتعرض للموت، كانت عروقه تنتفض من الغضب على بنى هلال الذين لم يعد لهم عهد ولا ذمة، منذ أصاب القحط أرضهم وحلت بهم الغمة وصاروا فى الصحراء فلولا ضائعة، يهاجمون القريب والبعيد كالضياع الجائعة.
وكان قلبه يمتلئ بالغيظ أكثر.. لأنه تجرأوا على مهاجمة بنى زحلان، الذين تنافل خبر انتصارهم على أبى الجود الركبان. فذاع صيتهم فى الصحارى والوديان.. وخافتهم القبائل فى كل مكان.
وعندما وصل بركات ومن معه إلى أرض المعركة، صاح صيحة ارتجفت لها الجبال وتزلزت من مكانها الصخور، فوقع حجر فى حجم العصفور على رأس رزق الجسور فأثار قلقه وجعله يقف مترددا لا يجيب على نداء القتال، فأعطى هذا الفرصة كى يتقدم غانم الزغبى ويبرز للميدان لمواجهة بركات..
صاح بركات فى غضب، وعيناه يتطاير منهما شرر كاللهب:
-من أنت أيها الدخيل، إرجع وأنقذ نفسك وأرسل رزق الدريدى لأمزقة بيدى..
كذب غانم عليه وقال:
رزق ذهب للصيد يا بركات.. مثلما كنت أنت تلهو فى الفلوات.. هيا يا صغير السن يا جهول.. لترى كيف يصول الزغبى ويجول..
التحم الفارسان فى ضجة ودمدمة ثم افترقا بعد جهد وعناد.. ليظهر غانم مجروحا مضرجا بالدماء.. وبركات يسخر منه ويعفو عنه قائلا:
-إسرع يا طويل اللسان وداوى جراحك بعيدا عن الميدان، هيا فقد نلت منا السماح..
قالها وصاح:
-هل من مبارز منكم يا بنى هلال.. هل من رجال تخرج للقتال.. أم تفضلون انتظار الضيوف.. ليحملوا عنكم السيوف..
خرج إليه الأمير عمار فعاجله بضربه كان فيها الدمار..
فاندفع إليه القاضى بدير فجرحه جرحا بليغا جعله يطلب العفو منه فعفا، ليعود مسود الوجه والقفا..
كل هذا ورزق مستمر كحجر يتأمل بركات وفعاله، وهو يود لو يخرج لقتاله.. لكن شيئا كان يشق قلبه يهمس إليه ألا يفعل.. والناس تتعجب من رزق لأنه لا يسرع ولا يتعجل، وظل الفرسان يخرجون واحدا بعد الآخر لبركات من كل الجهات، فيصرعهم أو يجرحهم.. أو يأسرهم ، حتى زاد عددهم عن التسعين ما بين قتيل وأسير وجريح وطعين.
وكل هذا ورزق ما يزال فى مكانه يراقب.. وكأنه عن الوجود غائب..
فقرر الأمير سرحان أن يخرج ل بركات بنفسه، فلما تقدم إليه، حل بركات عليه.. وطعنه بالرمح طعنة أصابت إحدى رجليه، فعاد مهزوما يعرج ويجر قدميه..
نداء الدم
انتفض رزق غضبا من نفسه، وأسرع يمتطى فرسه.. وسط صيحات الرضا من الجميع فقد كان وحده الكفيل بإيقاف بركات عند حده.. وأن يرسله إلى لحده..!
والتحم رزق وبركات تلاحم الانداد الابطال، واصطدما الجبل بالجبال.. فتبادلا الضرب والطعان.. تارة فوق الخيل، وتارة فوق الرمال.. وطارد أحدهما الآخر بين الصخور، قافزين صارخين كالنمور… يتبادلان الأوضاع والأمكنة، مستخدمان كل احيل والفنون الممكنة وغير الممكنة، حتى تعب رزق وسال العرق كالبحر، وكل بركات.. وكاد أن يفقد سيطرته على الأمر.. لولا أن رزق اقترح عليه أن يستريحا، فأشفق بركات عليه، خاص حين نظر فى عينيه، فأحس شيئا غامضا يقربه إليه..!!
وانهمك كل منها فى إصلاح حاله.. وقد إنشغل باله، متأملا فى قوة غريمه وأفعاله.. وكان الرجال من الجانبين يتأملوا البطلين.. صامتين كأن على رؤوسهم الطير.. وفجأة..
صاحت إمرأة شابة، من بين صفوف بنى هلال فى خوف وفزغ محذرة بركات.
-احترس يا بركات.. إحترس..
وفى لمح البصر، قفز بركات مبتعدا من فوره.. متفاديا ضربة حربة، كانت تستهدف ظهره..
ساد صمت رهيب ثم اندفع الفارسان فى ضراوة يستأنفان القتال، حتى جرح رزق جرحا بليغا على الرمال.. وتقدم بركات الغاضب يريد قطع رقبته، فصاح به نفس الصوت الذى حذره من حربته.
-لا يا بركات.. لا تقتله وكن كريما وإجعله أسير عطفك، وعتيق سيفك.. فهذا أكرم لك وله يا بركات!
لم يكن رزق قد صدق أذنية حين سمع ذلك الصوت فى المرة الأولى.. ولكنه وهو ملقى على الأرض فى صمت، ينتظر حد السيف والموت، تأكد تماما أنه صوت ابنته شيحا.. فتمنى أن يقتله بركات على الفور، هربا من هذه الفضيحة!..
لكن بركات أغمد سيفه فى جرابه ولم يفعل.. واستجاب للصوت الطيب الذى هز قلبه حين رجاه، .. أن يتراجع عن قتل رزق ويهبه الحياة..!