آخـر حـدود الكــرم

آخـر حـدود الكــرم
- يا للكارثة…
كانت هذه صيحة حسن بن سرحان بعد أن عبر هو وأصحابه متنكرين مضارب البعيد ورعاة الإبل.. وواجهوا الأرض التى يبست حشائشها لسنين مضت .. لم يعلق أى واحد منه.. فقد كان كل منهم يدرك أبعاد المصيبة التى حلت بوادي العباس منذ سنوات فحولته من جنة فيحاء.. نضرة الأشجار سامقة النخل وارفة الظلال.. إلى أرض خراب جفت ينابيعها ويبست أشجارها .. وصارت نخلاتها أعجازاً خاوية.
كانت فكرة الرحيل تلح عليهم جميعاً.
وكان الجميع يقاوم الاقتناع بها.. دون أن يجد سبباً لذلك بعد أن عم اليأس ومات الأمل فى تغيير الوضع، أو سقوط المطر بما يكفي لعودة الحياة إلى الأرض اليابسة..
***
كان مجلس الأمير حسن بن سرحان قد وصل إلى القرار الأخير بالرحيل عندما دخل عليهم عديد من شيوخ القبائل ورؤساء البطون، وقد انعقد عزمهم جميعاً على الرحيل إلى حيث ينقذون ما بقى من حياة وأطفال … وسيطر الموقف البائسة على الجميع، مع انهم لم يكونوا قد وصلوا إلى تحديد المكان الذى إليه يقصدون.
صرف الأمير حسن الشيوخ والرجال وإعداد أياهم تقرير الأمر فى الصباح..
ولم يبق عنده سوى الأمير أبو زيد والأمير دياب بن غانم، والقاضى بدير بن غانم.. فالتفت إليهم وقال:
- يعز على مثلكم جميعاً أن نغادر هذه الأرض ولكن للضرورة أحكام .. وعلى الحكام أن يضعوا الرعية نصيب أعينهم وإلا ما استحقوا ما هم فيه من مكان فهي أمانة وأى أمانة.
قال أبو زيد:
- صدقت يا ابن سرحان ولكن لا يجب أن نخاطر أو نغادر، دون أن نعرف إلى أين المسير، وكيف يكون المصير.. وإلا لكنا كمن يسوق أهله للانتحار والبوار..
قال حسن:
- هذا ما اجتمعنا من أجله.. ولكنى أريد أن يأتى معي فأهلاً.. لقد قررت التنكر فى ثياب شعراء غرباء لأطوف بمضارب بنى هلال لأعرف أحوالهم بنفسى .. حتى لا يكون القرار نابعاً من يأسى وعجزى.. وإنما استجابة لرغبة الجميع..
استحسن الثلاثة رأيه وأيدوه… وفعلوا مثله فتنكروا لساعتهم فى ثياب الشعراء وخرجوا تحت سرت الظلام يطوفون بالخيام.. ويرقبون الناس ويلتمسون أحوالهم فى الصحو والمنام..
وها قد مضت عليهم ثلاثة أيام وثلاثة ليال… شاهدوا خلالها من مظاهر الفقر والحاجة ما لا يصدقه عقل..
واستمعوا لحديث الجوعى والصرعي.. والعطاش.. ولمسوا بأيديهم ما آل إليه الحال… تلك التى دفعت الأمير حسن .. أن يصرخ فى ضيق بعد أن خرجوا من مضارب رعاة الغنم والجمال.
- يا للكارثة..
قال الراوى:
سار الأربعة الأمراء المتنكرين فى ثياب الشعراء الغرباء.. دون أن ينطق أيهم بكلمة أو حرف. وقد عصر قلوبهم – وهم الفرسان الشجعان –أبشع أنواع الخوف.. الخوف من المستقبل والخوف على الأطفال.. لقد ذبح الناس كل ما يمكن الاستغناء عنه من الغنم والجمال. وباع معظم الناس كل ما يمكن بيعه لقاء مال.. ولما طال المسير فى صمت .. وطال عليهم الوقت … وكل منهم يتشاغل عن الآخرين بحزنه ويخفي عنهم همه وشجنه.
لاحت من بعيد نادر خافته.. لكنها كانت كافية لتكون لأبصارهم لافتة .. فوجد كل منهم فيها حجة ليبدأ الحديث فقالوا كلهم فى وقت واحد.
- هيا لنعرف أحوال أصحاب هذه النار… ولنعود قبل أن يدهمنا لنار…
صلوا على النبى المختار.. الذى اخضرت تحت قدمه الأرض البوار.. كانت تلك مضارب الأمير مفرج بن نصير.. الذى كان جالساً أمام خيمته يشكو للسماء مثلهم شديد حاجته وقلة حيلته.. فقد ذهبت المجامعة بكل ما لديه من أبل، إلا ما يكفيهم للرحيل.. ولعدة أيام مضت لم يعد لديهم طحين ولا عجين.
أنه لم يعد يطلق سماع آهات الشكوى والأنين… خرج يستروح نسيم الليل ويفضى بشكواه.. للإله الرحيم.. وليخفي عن أهل بيته ما يراودون من حزن يجعل الدموع تطفر من عينة.. وهو الفارس الذى كانت مضاربة مقصد المحرومين والمحتاجين.
ارتعشت شفاه عندما لاح له خيال الراكبين الأربعة يقتربون فى الظلام .. وقال:
- اللهم إجعله خير.. ولا تفضحنا أمام الغرباء.
ولما تأكد أنهم ليسوا من أهل الحي ازداد اضطرابه.. وعذابه.. وكادت عينة تذرفان الدموع.. عندما حيوه بالسلام .. وقالوا:
- أيها السيد الكريم.. هل لك أن تقبلنا ضيوفاً الليلة واحدة.. فقد طالت بنا الطريق.. وأجهدنا السفر…
قفز الأمير مفرج وهو يفعل المستحيل ليداري اضطرابه، مرحباً .. هاشاً .. وهو يدعو الله ألا يلاحظوا حالة … سوء أحواله..
- يا أهلا بكم وسهلاً أيها الضيوف..نزلتم أهلا وحللتم سهلا.. هذه داركم ولكم الفضل والمعروف..
- ونزال الأمراء المتنكرين فى ثياب الشعراء والغرباء عن رواحهم.. ودخلوا الخيمة حتى دعاهم للجلوس وهو يدارى اضطرابه.. ويسرع إلى زوجته وهو يدعو الله ألا يلاحظ الضيوف ما به..
وفوجئت زوجته بهى التى كانت من أجمل نساء الحي بزوجها يطالب منها أن تجهز عشاء لأربعة.. وهو يعرف تماماً أنهم منذ يومين لم يذوقوا شيئاَ من الطعام.. وأنهم ذبحوا وأكلوا كل ما لديهم من أنعام..
فصاح بها وقد نسى حذره.
- اذهبى على الفور إلى أبيك شيبان واحضرى ما تجدينه لديهم من طعام.. هيا فقد قصدنا هؤلاء دون العربان.. وجاءونا من أبعد مكان.. هيا … هيا..
ودفعها بلهفة إلى الذهاب.. وعاد ليرحب بضيوفه الذين لم يخف عليهم ما هو عليه من اضطراب .. بعد أن سمعوا سؤال زوجته .. وسمعوا ما ردد به من جواب.
لكنهم لم يظهروا شيئاً .. ودخلوا يضربون معه فى دروب الأحاديث والحكايات ليخففوا عنه ما به من عذاب..
ثم رأوه، وهو يقوم فى لهفة ليجيب نداء زوجته، التى عادت من عند أبيها.. ولم تستطيع رغم ما حاولته من همس.. إن تخفي ما عادت به من يأس .. لكنهم حبسوا أنفاسهم عندما سمعوه يحاول أن يكتم آهات ألمه.. وهو يستمع إليها تطلب منه أن يخرج فى الحال.. ليبيع ابنته لأى من يريد أن يشترى جارية حسناء .. لإطعام ضيوفه .. فليس لديهم شىء آخر .. وأنها سوف تجهزها له فى ثوان..
لكن الفتاة وكان أسمها: " الثريا " .. وكانت تستمع لما يجرى فى ألم وحزن منذ وصل الضيوف .. ورأت ما هو عليه حال أبيها وأمها من اضطراب وكرب.. وتصورت مدى فضيحتهم بين العرب.. لأنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا أربعة شعراء غرباء نزلوا عليهم ذات ليلة .. فقالت..
- أنا جاهزة يا أبى .. هيا بنا..
****
لم يعد الأمير مفرج إلى ضيوف .. بل انطلق على الفور مصطحباً ابنته ليدور بها على شيوخ القبائل .. وأهل الفضل . وهو يدلل عليها .. وينادي:
- من يشترى بنتى الثريا بعشاء أربعة ضيوف..
وكان أبو زيد قد أسرع فى خفة بتبعة خفية.. ليرى ما الذى ستكون عليه نهاية هذا الحادث العجيب والأمر الغريب. وكانت السيدة بهى زوجة الأمير مفرج.. تحدث ضيوفها وتسامرهم من وراء ستار وتهون عليهم الانتظار متعللة إليهم أن أمراً عاجلاً قد استدعي أن يخرج الأمير لأمر عاجل وسيعود بمجرد أن تنتهي هى من إعداد الطعام..
وفجأة دخل أبو زيد وهو يلهث وهمس فى أذن الأمير حسن بشىء جعله يتسلل بسرعة وخفة خارجاً دون أن ينبث بكلمة حتى لا يلفت أنظار صاحبه الدار.. وأسكت أبو زيد رفيقه الذين دهشا لما يحدث.. وهم يرون الأمير حسن يمتطي حصانه ويسابق الريح ويختفي وسط ظلام الليل الدامس… همس لهما أبو زيد بإجابة سؤالهما قائلا:
- أن الأمير مفرج سيتوجه إلى منازل الأمير حسن ليبيعه الثريا… بعد أن يئس من بيعها لغيره.. الجميع كانوا مذهولين لجمالها وحسنها.. ولكن الجميع يقولون … وإذا اشتريناها فماذا نطعمها ونسقيها؟..
أخذ القاضى بدير يبسمل ويحوقل .. وهو يقول:
- لا حول ولا وقوة إلا بالله… اللعنة عادت تلاحقنى بنى هلال… هذا ما كتب عليها وما قدر .. لا حول ولا قوة إلا بالله… مكتوب أن نغترب حتى فى ديارنا.. وأنا تحلق بنا اللعنة.. الأرض شربت من الدم ما جعلها وتقسو وتتحجر .. ماتت القلوب فمات الزرع الأخضر.
وبينهما هم فى الحديث.. إذ دخل عليهم الأمير حسن وهو يلهث فجلس يلتقط أنفاسه والكل يحاول أن يعرف ما جرى.. وهو يهدئ من لفتهم بالإشارة حتى لا يسمع أهل الدار ما سيقول.. وكانت السيدة بهي تروح عنهم بالحديث حتى لا يحسون بغياب الأمير مفرج ولا بتأخر العشاء. ولما تركتها لتستقبل زوجها الذى عاد فرحاً مجبور الخاطر على ما يبدو هذه المرة .. فانشغلت به عنهم.
حكم لهم الأمير حسن ما جرى منذ خروجه على عجل.. وكيف حمد الله أنه وصل قبول وصول الأمير مفرج.. فبدل ثيابه قبيل دخوله عليه بلحظات.. وكيف بكى عندما رآه يدلل على ابنته الجميلة الثريا.. ويرجوه أن يشتريها لقاء عشاء أربعة شعراء..
وحكي لهم كيف طيب خاطره رده مكرماً مع ابنته، بعد أن أمر له ببعض الدقيق والسمن من بيت المال.. وكيف أسرع ليستبدل ثيابه مرة أخرى.. ويلهب ظهر فرسه حتى يصل قبل عودته..
وأخذ الأمراء ( الشعراء) الأربعة يتبادلون حديث الدهشة والعجب حول هذه القلوب التى من الذهب.. وهم بتابعون ما صار إليه الحالي. إذا انتقلت من الصمت والاضطراب المثير للألم إلى بهجة وفرحة.. وعمت المكان حركة مليئة بالحيوية إذا قامتا.
بهي والثريا .. فجنا وخبزا واشعلا النار، وفاحت ريحه الخبير تبشر بتحقيق الأمل..
ودخل الأمير مفرج على ضيوفه هاشا باشا يضحك مرحبا.. فقد سترها الله معه، ولم يفضحه، وسيتعشى الشعراء الغرباء.. ولن يقولوا أنهم قصدوا ذات ليلة مفرج بن نصير.. وتاتوا من غير عشاء..
***
لم يجد الأمراء المتخلفين فى ثياب الشعراء شيئاً يقولون أثناء طريق العودة.. فقد كان الأمر أكبر من أكبر من أن تعبر عنه الكلمات .. لكن الأمير حسن التفت إلى أبو زيد وقال:
- يا سلامة .. لقد فاجئتنى حين طلبت أن تأخذ معك أولادى الثلاثة " يحيى " و " مرعي " و " يونس " لكشف الأرض والطريق وريادته.. كنت أعرف أنك تضع العقدة فى المنشار.. وكنت سأرفض … ولكنى الآن خجل من نفسى .. فها هو الرجل كان سيبيع ابنته لقاء إطعامنا لليلة واحدة.. فكيف أبخل بأبنائى فى سبيل إطعام الهلالية..!
مغامس وشاه الريم
بعد أن غادر أبو زيد، وفى صحبته يحيي ومرعي ويونس، بلاد الملك الدبيسى الذى أكرمهم غاية الإكرام.. واستضافهم لمدة عشرة أيام .. باعتبارهم من شعراء العرب الذين يقصدون الملوك والسلاطين لمدحهم والحصول على عطاياهم ورضاهم.. بينما كان أبو زيد خلال الأيام العشرة يدرس الأحوال .. ويرصد حركة الرجال والجمال والأموال.. وكان يدور فى الأسواق والحوارى.. ويسأل العبيد والجوارى.. عن طريق التجارة والبضائع.. ويشاهد محلات الحرف والصنائع.. فعرف أحوال البلاد وما عن الدبيسى من عسكر وأجناد، وسجل فى علقه ومراكزها ومدخل المدينة ومخارجها.. ويحفظ كل ذلك فى ذاكرته.. حتى يحين وقته.. ثم غادر ومعه الفتيان الثلاثة مرعي ويحيي ويونس .. قاصدين بلاد الغرب..
ومضى الأربعة يسابقون الطير الطائر… ويقطعون البرارى والآكام مدة تسعة أيام .. بالكمال والتمام .. حتى وصلوا إلى مشارف وادي " العميق "… فسمعوا دق طبول وأصوات زمور.. وشاهدوا من آخر الطريق… أعلاماً وزينيات.. تدل على الفرح والسرور..
فقال أبو زيد:
- بشراكم يا فتيان .. كأنهم يقيمون عرساً لاستقبالنا والترحيب بنا.. هيا بنا نقصدهم .. ونقضى الليلة عندهم .. ونشاركهم ونهنئهم بأفراحهم.
***
قال الراوى…
فى الحقيقة أن الفرح لم يكن فرحاً حقيقياً .. إنما كان اغتصاباً .. ولم تكن العروس العتى ستزق فرحانة سعيدة وإنما كانت تعانى قهراً وعذباً.
" والحكاية تقول .. صلوا على طه الرسول..
كان هناك شقيقان أميران، من أكابر الفرسان يحكمان تلك البلاد بالعدل والقسطاس.. فأحبهم الناس إذ جعلوا الحب والعدل للحكم أساس .. كان الأول الأمير عامر وأخوه كان أسمه أبو الوجود .. وكان العامر ولد فارس وحيد جميل الصورة طيب السيرة ذو بأس شديد. وكان لأبى الوجود فتاة ذات حسن فتان فصيحة اللسان معدلة القوام كغصن بان.. تتقن الغناء والضرب على العود..
وقد نشأ مغامس بن عامر وعاش طفولته مع شاة الريم… وشهدت أرض تلك البلاد وأشجارها وأنهارها وسماها وطيورها قصة الحب الجميلة التى باركها الجميع حتى الشتا وأزهار الربيع. وكان أن اتفق الأخوان على تحديد كل شىء للزواج حسب ما قلت الأبراج .. عند ظهور هلال شوال بعد 5 سنوات بالتمام والكمال .. لكن عمر السعادة قصير.. فى ذلك الزمن العسير .. فقد كان لههما عدو من ملوك العربان.. أسمه " نبهان" .. ما أن بلغه هذا الكلام.. حتى أخذ العدة لينقض على البلاد ويجهز لذلك الجيوش والأجناد.. وفاجأهم ذات يوم .. فاقتحم الحدود .. وتصدى له عامر أبو الوجود..
وجرت بين الطرفين معارك يشيب لهولها الأطفال راح فيها عدد لا يحصى من الشجعان والأبطال.. وقتل فيها أبو الجود.. وجرح الأمير عامر.. ولو لا أن أسرع إليه بعض جنده لأخذ أسيراً فى القيود.
وكان للأمير عامر عبد عملاق أسمه " سعيد " .. وكان متكلفاً برعي الجمال فى الوديان والتلال .. وكان مصارعاً ولاعباً بالرمح والسيف .. وكانوا يدعونه ليستعرض قوته كلما زارهم ضيف.. ولما رأى سعيد تلك الحال.. وما أسفر عنه القتال.. امتطي ظهر الحصان وهجم على نبهان.. فتبعة من بقى الفرسان. فانقلبت الكفة خاصة عندما طلب نبهان للنزال .. وصدمة صدمة الجبال للجبال.. وتمكن من قتله بعد تعب ونضال..
وما هى إلا ساعة من الزمان.. حتى تشتت جيش نبهان وأصبح منها من فرسان وجنود .. وهم يحملون ما غنموه من غنائم وأموال إلى حيث كان عامر يرقد فى أسوأ حال..
وقابل الناس سعيد بالتهليل والزغاريد. فقد كانوا كمن خلقوا من جديد بفضل البطل الصنديد. الذى سكره عامر على بطولته ..وحرر رقبته .. وقربه إليه وقد عزت روحة عليه..
وكان الجرح الذى أصاب الأمير عامر جرحاً لا شفاء منه ولا نجاة.. وأحسن أنه على وشك الوفاة.. فجمع الديون من الأمراء والأعيان والقواد والفرسان.. وأعلنهم أنه لم يجد خيراً من سعيد البطل .. ليضع فيه ما بقى من أمل … وأنه سيقيمه مكانه ومكان أخيه.. حتى يكبر أبنه ويأتى موعد زفافه إلى بنت عمه.. فيزوجه منها ويسلمه الحكم … واخضر كتاب الله والفقهاء والعلمان والوجهان جعلهم يقسمون مع سعيد ما قال .. فأقسموا جميعاً على فعل بالتمام وبالكمال..
والله ينتقم من خائن العهد شرك انتقام..
وما أن تم ذلك حتى غفا عامر غفوته الأخيرة ونام .. ذلك النوم الأخير الذى لا يعرف الأحلام.
ومرت الأيام..
صلوا على خير الأنام.. رسول المحبة والسلام…
لما جلس العبد سعيد على كرسي الأمير عامر… أطاعه قواد الجيوش والعساكر.. ومشى فى ركابه الأكابر والأصاغر.. وكلما رأى الكبار يطأطئون رؤوسهم أمامه… تجبر على الصغار وأحكم فى رقابهم لجامه .. شيئاً فشيئاً داخله الطمع والعناد.. فقرر أن يصبح الأمير على البلاد .. وجمع الأعيان والعرسان وقال لهم على رؤوس الأشهاد:
- أعلموا يا أيها السادة… إننى أنقذت هذه البلاد من نبهان..ورفعت شأنها بين الأوطان .. ولذا فقد قررت أن يكون لك واحد فى المكان الذى يستحقه والمنصب الذى يستطيع القيام بحقه .. ولذا أعلن نفسى ملكاً على هذه البلد.. التى هى أكبر من أن يحكها غر أو ولد.
وفهم الحاضرون ما يعنيه ذلك.. وخافوا أن يوردهم اعتراضهم المهالك. وقالوا.
- وماذا يفهم الغلمان والصبيان من أمور المالك..
فى تلك اللحظة دخل مغامس فلم يعره أحد منهم أى اهتمام … حتى أنهم لم يردوا عليه السلام.. فخرج من فوره عائداّ إلى أمه .. فأخذت تسرى عنه.. وإلى صدرها تضمه..
وبينما هما فى هذا الغم والنكد .. إذ جاءهم من عند سعيد من يطالب منهما مغادرة البلاد.
وقال اللأم المكلومة:
- لقد أرسل لكما سيدى سعيد .. هذه الناقة الجريانه.. والشاه العيانة .. وهذه الخيمة القديمة.. لتغادر على الفور وتخرجا من المدينة..
فبكت أم مغمس من هذا الفعل الأثيم .. ومنعت ابنها من أن يذهب للانتقام لأنه وحيد .. ولا يستطيع مواجهة سعيد .. وخرجت به مع القليل الذى بقى لهما .. وخرجا .. من ساعتهما حتى وصلوا إلى واد عميق بقرب الطريق فأقمت خيمتها الممزقة وأحاطتها كي تسد مزوقها وخروقها بأغصان الشجر والنخيل وفرشتها بالقش والخجيل..
هذا ما كان من أمر مغامس وأمه .. الحزبية..
أما كان من أمر سعيد الملك الجديد فإنه طغى وبغى وازداد غيه وظلمه.. حتى أنه طمع أن يوطد حكمة.. بالزواج من شاة الريم خطيبة مغامس وابنة أبى الجود.. فأرسل إليها من أحضرها .. لتزف إليه على الفور غصباً .. وأمر بإقامة الإفراج والليالي الملاح .. فدقت الطبول وعزفت الربابات والنايات.. وعلقت الزينات ورفرفت الرايات..
وهذه بالذات ما لفت نظرا أبو زيد والفتيان عندما سمعوه ورأوه من بعيد .. كان زفاف شاه الريم اليتيمة المغلوبة على أمرها إلى سعيد الذى اغتصب الحكم من خطيبها وحبيبيها مغامس وألقى فى الظلام الدامس..
***
كانت أصوات الطبل والزمر .. تصل إلى مغامس فتدخل أذنيه كالجمر .. فأخذته أمه فى حضنها، وأخذ تخفف عنه حزنه وهى تداري آهات حزنها وتقول له:
- أن الله الكريم لا يمكن أن يرضى هذا المصير لشاه الريم.. فاصبر يا ولدي.
وأخذت تصلي وتدعوا الله أن يرضى هذا المصير لشاه الريم .. فاصبر يا ولدى..
وأخذت تصلى وتدعوا الله أن يلهمه الصبر.. فله من قبل وبعد كل الأمر .. وجعل هو يغلب آهاته ويكتم زفراته… لكنها كانت تزيد عليه وتتغلب عليه فيطلقها فى الليل تثير الحزن والشجن .. فى قلب كل من يسمعها.
وفى تلك اللحظة كان أبو زيد ومعه الفتيان يمرون عن قرب.. فسمعوا نهنهات الأم ودعواتها ..وأحسوا بحرقة أحزان الفتى وآهاته..
وتبينوا من خلال نجواهما انهما فى مأزق كير
فقال أبوزيد للفتيان:
والله إن وراء هذا الذى نسمع أمر خطير…
فنادي على أهل الدار.. فخرج مغامس فى الحال ورحب بالأغراب أحسن ترحيب وأخفى عنهم ما كان يمزق صدره من نحيب..
وأسرع إلى ناقته فذبحها.. مع أنه ليس لديه غيرها .. وأعجب أبو زيد والأمراء المتنكرين ثياب الشعراء.. ما فعله هذا الشاب معهم… وكيف رغم ما به من حزن أكرمهم..
وبعد أن أكلوا وشربوا.. أخرجوا الرباب.. وفتحوا الكتاب.. وحلت الفرحة محل الأسى .. وتبادلوا الحديث والحكايات.. وعرف أبو زيد من مغامس وأمه سر ما هم فيه من شتات..
فقرر أن ينصرهم .. وأن يعيد الحق لأصحابه .. فامتلأ الكوخ الضحكات والنكات…
وتصادق فى تلك اللحظة أن سمع ضجة الكوخ أحد الرعاة من رجال سيعد كان يطارد دابة هربت منه .. فأسرع يبلغ سيده أن الكوخ الحزين الذى أقيم على آهات الأنين .. ملئ الفرح والبهجة … وأن مغامس لديه ضيوف شعراء ينشدون الشعر ويشاركون الطعام والشراب .. فأرسل سعيد وقد اشتد به الغضب.. جماعة من الجند تحضرهم إليه.. وقد أعمي الغضب عينيه..
***
قال الراوى..
كان سعيد متكئاً على ظهره وحوله رجال يأكلون ويشربون فى انتظار وصول العروس.. عندما أدخل الجند الأمراء المتنكرين فى ثياب الشعراء… فلاقاهم بوجه عبوس..
وحين ألقى أبو زيد عليه السلام.. لم يجبه الكلام.. ولم يظهر له الاحترام بل رفع رجليه وزغر فى عينيه وصاح فيه.
- كيف تكون من شعراء العرب. ومن أصحاب الفضل والأدب .. وتتركون زيادة الأمير .. وتذهبون لضيافة صبى حقير..
كتم ( أبو زيد) غيظه وابتسم.. وقد صمم على قتل سعيد وإيراده موارد الندم:
- طال عمرك وزاد مقامك قدرك.. ما جئتنا هنا إلا لمدح جناحك .. والتشرف بساحتك وأعتابك.
رد سعيد مقاطعاً.
- لا مرحباً بك فما أتعس زيارتك، وما أثل دمك.. ولا رحم الله أباك ولا أمك ..
تبسم أبو زيد وهو يقول فى نفسه..
" خان حينك ياسعيد وأنت الذى فعلت ذلك بنفسك "
لكنه رفع صوته وقال..
- لا تؤاخذنا يا عظيم الأدب .. وأشرف العرب.
فاغتاظ سعيد وأحسن أنه يعرض به .. فقال:
- ما هذا الكلام الغليظ الشديد يا أحط العبيد... والله لولا سواد لونك لقطعت رأسك وأجهزت أنفاسك. فأجلس حيث أنت فى مكانك واكنفا شرك لسانك.
تقدم منه مرعي وقال:
- لا تؤاخذه يا سيد الأشراف .. ولا تغضب منه إنه قبيح الوجه من الأجلاف .. فى تلك اللحظة انعكست صورة سعيد أمامه فى كأسه فعرف أنه يقصده بقوله فأمر السياف أن يقطع رأسه.
لكن يحيى أسرع يتشفع له:
- لا يأ أمير .. لا يهتم أمير بن أمير مثلك من نسل الأمراء بما يرتكبه حمقى مثلهم من الدهاما.. انهم أقرب إلى ما كانوا يرعونه من إبل وأغنام ولا يتقنون فنون الكلام..
فزاد بسعيد الغضب .. وقد أحسن انه يعرض به ويصفه بأنه قليل الأدب .. فصاح بالجلاد أن يقطع رؤوس الثلاث شعراء.. قصاصاً لما أظهروه من عداء..
وهنا نهض يونس.. واعترض طريق السياف.. وقال:
- أعتز لك أمام الحاضرين والسادة المقدمين.. أنهم من أصل وضيع ولدول وعاشوا فى الظلام.. ولذا لا يعرفون معنى الكلام .. أنا الذى سأمدحك بما يليق بك من شعر ونظام .. انهم رعاة أغنام فأهدأ وقر نفساً .. فأنت أدرى بأصلهم وبأصلك يا سيد أهلك.
وهنا لم يطلق سيعد صبراً .. فجرد سيفه وقام بنفسه ليقطع رؤوس الأربعة .. وما أن رفع السيف حتى كان أبو زيد قد ركعه.. ووضع السيف بين عينيه.. وأمره أن يأمر رجاله بدعوة مغامس وأمه ليشهدوا مصرعه.
وليس هناك من مجال لكشف ما جرى من أحوال .. فقد راح سعيد إلى حيث ألقت .. وجلس مغامس على عرض أبيه وتزوج من عروسه شاه الريم.
وربك ناصر المظاليم، وهو كل ظالم أثيم.