هروب من الأسر

هروب من الأسر
قال الراوى..
طالت الحرب بين بنى هلال والمالك الدبيسى لأيام طوال .. وكان المالك الدبيسى قد طالبهم بدفع كثير من المال… لقاء نزولهم بأرضه فى طريقهم إلى المغرب وإلا طاردهم نطردهم إلى الصحراء والجبال.. وعندما وصل إليهم خطابه فى أوائل أيام نزولهم..
نصح أبو زيد الأمير حسن أن يرسل إلى الدبيسى طالباً إمهالهم عشرة أيام وذلك ليسكب الوقت حتى يستريح فرسان بنى هلال ويكونوا مستعدين للقتال.. وفى نفس الوقت تنكر أبوزيد فى ثياب بائع جوال.. وتسلل إلى ضارب الدبيسى ليتفقد الأحوال.
وكان أبو زيد قد جاء إلى هذه البلاد من قبل مع مرعي ويحيى ويونس .. عندما كانوا يكشفون الطريق إلى " تونس " لذا كان من السهل عليه أن يتجول فى المدينة وما حولها.. ليعرف أحوال الدفاع عنها.. وأين جيوب الدبيسى وأماكن نزولها وعدد فرسانها ورجالها..
وما أن انقضت الأيام العشرة حتى أرسل الدبيسى يذكرهم ويتعجل إذعانهم فردوا رسوله فى غلطة معلنين عصيانهم.
وقال الدبيسى:
- هذا من تدبير الماكر أبو زيد.
الذى لابد من أسره بنفسى ليموت فى سلاسل الحديد ، ذلك الغادر الذى جاءنى يوماً فى صورة شاعر ليكشف أسراى ويعود بأهله ليخرجوا دياري.. وكان الغيط يدفع الدبيسى كل يوم للخروج للقتال .. داعياً أبو زيد كي يتقدم للنزال .. صارخاً فى بنى هلال:.
- أين أبطالكم يا بنى هلال.. هل تهربون من القتال..
وما إن أتم كلامه حتى خرج إليه الأمير دياب وحط كأنه السيل قدامه .. وجرت بينهما وقائع وأهوال لم يرها أحد فى قتال أو نزال.. جعلت بنى هلال يهتفون باسم دياب.. ويلقبونه بالمهاب..
فتكدر السلطان حسن بن سرحان. لأنه لم يكن يريد أن تعلوبين بنى هلال لدياب مكانه تطاوله مكانته.. خوفاً من طموحه وقدرته.. وذلك تلقاه عند رجوعه من حلبة الصدام وقابله بأغرار وإكرام … وشكره على ما فعل … وحدثه فى أدب وخجل.
- الله درك يا دياب فى القتال، لكن لا تخرج فى الغد للنزال.. فأتت تقاتل منذ أيام .. والدبيسى مرتاح وأخشى أن يظهر عليك ياهمام..
لكن دياب قال:
- يا مولاى لا تمنعنى فانا فداك .. ولا أخشى الموت فى القتال فداك.. فأحرج السلطان حسن وقال وهو يخفي مشاعره:
أنا ما تفوهت بهذا الكلام إلا لأنك مرهق وتعبان لكن مادام المر كذلك فأخرج غداً للقياه.. لعلك تكفينا شره وأذاه..
والحقيقة أن الدبيسى كان يطلب لنفسه نزال حسين أو أبوزيد ..وكان رجال الهلالية يمنعون حسين من الخروج إليه إشفاقا وخوفاً عليه. أما أبوزيد فقد كان مشغولاً بأعداد خطة لاقتام المدينة.. وتجهيز أشياء من النفط لهدم أسوارها مستخدما بذلك مهاراته والعلوم لتى لا يعرفه غيره أسرارها. .. بينما كان دياب.
يستعد للخروج للقاء الدبيسى فى الميدان.. دخلت عليه ابنته وطفا دامعة العنين محرقة الجفنان.. فقال لها:
- ما أصابك يا حبة الفؤاد.
- فصاحت باكية قائلة:
- هل تظننا من الجماد ؟ وهل خرجنا من البلاد كي يتيم أولاد، لقد رأيت حلماً أفرغنى .. لذا لن أتركك تودعنى…
ضحك دياب وقال:
- هل تخوفين دياب من منام .. يا وطفا، وأنت خايفه وحلمك مجرد أضغاث أحلام .. هيا يا ابنتى وانتظرينى عندما أعود منتصراً من الصدام.
وعاد دياب مجروحاً جرحاً بالغا.. بل وكاد أن يقع فى الأسر فقد تلقاه الدبيسى وهو فى أحسن حالاته… وصمد لكل ضرباتة.. حتى جاءته فرصة فوجه حربة لدياب أصابت فخذه وأدمته .. وعلى الأرض أوقعته .. فلما أراد أن يجهز عليه تصدى له رجال من بنى هلال.. حالوا بينه وبين أخذه أسيراً…
ولما طال أمر المعركة حول دياب الملقى على التراب وصل الخبر إلى أبو زيد .. فهب مسرعاً وامتطى فرسه وهجم بقوة على المغيرين من جند الدبيسى .. وهو يصيح وينادي..
- جاءكم أبو زيد ليث البوادي ومشتت الأعادي..
وما أن آه جند الدبيسى حتى فرغوا وتفرقوا.. ولحقوا بملكهم الذى كان قد عاد لمعسكره منتظرا إحضار دياب ميتاً وأحياناً ليأسره.
***
حزن أبو زيد جدا لما حدث لدياب .. وأخذ يؤنب نفسه على استهانته بقوة الدبيسى .. وتفضيله الانشغال بالكمياء دون القتال.. خاصة وأن الأخبار وصلت .. بان الدبيسى وعساكره وقد أسروا أكثر من عشرين فارساً من خيرة الأبطال ومنهم الأمير عرندس والرياشى ومفرج) والهدار، وانزعج الأمير حسن من هذه الأخبار..
فطلب أبو زيد على عجل لكي يبحث المر معه. ولما عقد المجلس وطال الجدال.. نصح أبو زيد بطلب النجدة .. والتجهيز لهجوم شامل وعام على العدو وإعطائه هو مهلة ثلاثة أيام.. يصدق أحد من الحاضرين أن ثلاثة أيام كافة لأنجاز هاتين المتهمين المستحلتين..
وهمس بعضهم .. لبعضهم.. يبدو أن أبو زيد لا يعرف ما يقول.. أو أنه يحاول الهرب من القتال المهول.. لكن الجميع كانوا يثقون فى أبى زيد ولا يعرفون عنه أنه كداب أو هراب .. ويكفي انه هو الذى أنقذ دياب..
***
وصل الدبيسى غاضباً إلى معسكره.. فأحضر الأسرى وصب جام غضبه عليهم .. وتوعدهم بالقتل والدمار، فلم تزدهم غضبته إلا إصراراً على إصرار .. فأمر بإرسالهم لى السجن الرهيب تحت المدينة.. حتى لا يعرف لهم أحد أثر جره..
وكان أبوزيد الذى وعد بإطلاق سراح الأسرى قد وصله فى اليوم التالي.. أن عشرة آخرين من بينهم الأمير زيدان الهلالي قد وقعوا فى الأسرهم الآخرين… حين جاء إليه أهلهم صارخين ضارعين .. فطيب خاطرهم ووعد قائلا:
- متى أخلفت لكم وعداً .. غداً على الأكثر سيكون الأسرى... فى أسرتهم..
ثم أنه قام .. ودخل إلى خيمته..
وجلسوا ينتظرون عودته … فلم يظهر لهم ولم يسمعوا خطواته فدخلوا يستطيعون الخبر..
فلم يعثروا له على أثر..
فبدأ اليأس يغزوا قلوبهم…
فأنبهم أبو القمصان على قله إيمانهم .. وطلب منهم العودة إلى بيوتهم..
اختفى أبو زيد من معسكر بنى هلال فجأة مما جعل القوم يضربون أخماساً فى أسداس .. وكل منهم يفسر اختفاءه على هواه..
***
فى نفس الليلة ظهر وسط ساحة السوق الرئيسية ومع أذان العشاء.. رجل فارسى يتحدث الفارسية والعربية بطلاقة… ويرتدي عباءة خضراء وعلى رأسه عمه سواء من الحرير مثل كل شيوخ الشيعة.. وكانت له لحية بيضاء تبعث على الرهبة .. وهو يوزع على الخلق بركات وعلى القراء حسناته.. ويدعو لهم .. وكأنه هو الذى يشحذ منهم..
وتصادفهم أن تعثر أحد البغال تحت ثقل حمل من الملح..وكاد صاحبه ييأس من حياته إذ تكوم الحمل من الأجولة على رقبته .. فتقدم الشيخ من البغل وأمسك بلجامه . وشده لأعلى مرة واحدة وهو يقول:
- قم بإذن الله…
فصرخ العامة أعجاباً بهذه المعجزة .. فاندفعوا يتبركون به .. وهو يدعولهم.. ويدعو الملك الدبيسى بالنصر بزن الله…
وعندما أذن للصلاة .. دخل إلى الجامعة القريب فقدمه الإمام على نفسه ودعاه أن يؤم الناس، فحاول الاعتذار ولكنه قبل أمام إصرار الجميع .. وقف خطيباً فيهم فأسال دمعهم.. وهو يعظم ويدعوهم لطاعة الله .. وطاعة ملكهم الذى يهدده العربان.
واصطف المصلون خلفه وهم يبكون لتجهده.. وتنخلع قلوبهم لشدة ورعة وهو يتلو عليهم آيات العذاب الشديد لعدم طاعتهم …
ثم جلس إلى أحد الأعمدة فلم يخرج أحد من الجامع .. بل تحوطوا حوله..فبدأ يعظهم ويحكي لهم سير الأولين .. والناس مذهولين مسحورين من قوة عباراته… وحلاوة صوته حين ينشد الشعر أو يقرأ القرآن.. وفجأة وصل بعض رجال الملك الدبيسى إلى الجامع.. وتقدموا منه فتفرق الجالسون عن طريقهم بل خاف البعض وانطلق خارجاً من الجامع.. وقد أثار ظهور رجال الملك فجأة رعبهم وساد صمت ووجوم .. ولكن الشيخ لم يكف عن الحديث وهو ينظر فى عيون القادمين مباشرة حتى اكتست ملامحهم رقة لا يعرفنها بتأثير عينة القاهرتين…
- ماذا تريدون ؟ ولماذا أزعجتهم تلاميذى؟ إذا كنتم تريدون الاستماع فأجلسوا .. كيف تدخلون إلى المسجد ومعكم السلاح ؟..
ارتج الأمر على الجند وقالوا:.
- سمعاً وطاعة .. ولكن أمهلونى حتى أنهى حديث إلى الناس.
ارتبك الحرس ولكنهم قالوا:
- لا نستطيع أن نذهب دونك فقد أمرنا أن نعود بك.. وقد سمع بكراماتك وأفعالك فى السوق، بمرد أن رجع من المعركة وهو يرفض أن يستريح قبل أن يراك .. اكتسى وجه الرجل بعض الحزن والحرج. ونظر إلى الناس كأنه فى حرج أن يطلب منهم الإذن .. لكن الناس سرعان ما فهموا موقفه فصاحوا فى وقت واحد.
- لا .. يا سيدنا أذهب إلى الملك.. وسنكون فى انتظارك حين تعود … وأسرع الجميع يفسحون له الطريق .. وظلوا خلفه حتى وصلوا إلى قرب مضارب الملك فمنعهم الحراسة وطلبوا منهم العودة… وأظهروا لهم بعض ما تعودوا عليه من الجنود ..ولكن دون أن يرى هو قسوتهم تلك .. ولكنه كان يعلم ما يجرى فالتفت فجأة وهو يظهر الغضب الشديد ونهر الجنود فارتعدوا..
وأشار الناس أن يعودوا فى هدوء، فعادوا دون كلمة وسط ذهول الجند وحرجهم..
***
قام الملك الدبيسى من مجلسه وما تزال عليه عدة الحرب.. إذ كانت قد بلغته مأثر الشيخ فى السوق .. وهش له فأراد ذراعية..
- يا مرحبا بك أيها الشيخ.. من أين أنت يا ابن الكرام؟
فرد عليه الشيخ:
- من بغداد يا سيدى .. وأنا أحد فقراء " سيدى عبد القادر " صاحب الفضائل والمآثر . وقد جئت إليكم حاملاً بشراه لكم بالنصر على هؤلاء الأعراب .. ففرح الدبيسى لبشرى الشيخ عبد القادر …. وقال:
- ونعم يا شيح .. ادع لنا أيها الدرويش أن يظهرونى على ذلك الغادر الماكر أبو زيد .. الذى خدعنى من قبل عندما جاء مع بعض الشعراء متنكراً ليكشف أسراره بلادى .. وها هو قد عاد مع بنى هلال ليحولوا بلادنا إلى إطلال..
أخذ الشيخ يتمتم بآيات وكلمات غامضة بالفارسية .. وهو يدور بمبخرته حول الملك.. وهو يهمس له بكلمات فارسية وأخرى سريانية.. حتى سرى الخدر فى جسم الملك وشعر كأنه يطير منتصراً على فرسه وأبو زيد مجندل تحتد قدميه..
- لا تخرج غدا للحرب يا مولاي.. بل بعد غدا استرح الآن فنجمك غير ظاهر عدا.. سأذهب إلى المدينة لأصلي بالناس فى جامع " سيدى عبد المقصود" وأدعو لك بالنصر .. والآن خذوه لينام ويستريح.. واتركونى وحدى الآن .. وأن غداً لناظره قريب…
***
لم يجرؤ أحد من الجنود أن يتبعه.. وما كان أن تأكد أن أحداً لا يراه.. حتى غاب فى دياجير الظلام.. وبعيداً عن عيون المتطفلين.. دلف إلى زقاق وفى خفه الفهد صعد سطحاً وقفز إلى آخر.. وتدل فى حارة صاعدة ثم نزل إلى شارع خال إلا من بعض جنود يتحركون فى انتباه.. كان يعرف المكان فقد كان هو السجن الرئيس الذى يحتفظ فيه الدبيسى بالأسرى … ظهر الشيخ فجأة أما الباب الرئيسى حيث كانت مجموعة من الحرس.. اندفع بعضهم نحوه ليمنعهم من التقدم ولكن ادهم عرفه.. فقال لهم:
- لا.. لا .. اتركوه انه شيخ البركة الذى كان في السوق اليوم.. وطلب الملك لقاءه..
- بارك الله فيك يا فتى. ولكن ماذا تفعلون هناك ولم أنتم بعيدون عن أرض المعركة.
قالوا له أنهم مكلفين بمهمة أشد من القتال ففى داخل السجن الذى يحرسونه أهم أبطال بنى هلال وهمس له أحدهم..
- لقد أضاف الملك إليهم خمسة آخرين من أهم رجال بنى هلال.. منهم سرور بن فايد.. ونعيم .. . الزحلان، ولابد أن هذا سوف يجعل الدائرة تدور على بنى هلاك .. خاصة ودياب جريح .. وأبو زيد هربان.
ضحك الجنود فى سعادة فجلس الشيخ وهو يضحك.
- اضحكتنى أيها الفتى … هذا بشارة سعدك.. وسوف أحدث الملك عنك .. ولكن لابد من الاحتفال.. فدعونا .. نبتعد عن الأنظار هنا.. حتى لا يظن أحد بناء السوء.
ضحك الجنود وأفسحوا مكانا فى حوش السجن والمجاور للباب وفرشوا المكان وجلسوا حوله يستمعون له .. يسحرهم بحديثه وترتيله وغنائه.. وكان أبو زيد قد وضع شمعة غريبة تضوى ضياء لم يروا مثله .. بعد أن سد أنفاسه سراً بقطعتين من الشمع الجاف..
وكانت تلك هى شمعة البنج التى قضى الأيام الماضية فى صنعها.. وما أن مضت ساعة فى الحديث والضحك والحراس منبهرين بسحر الحديث والكلام.. حتى نام كل واحد منم فى موضعه .. وهنا هب الشيخ صاحب الذقن المهولة.. وقفز فى خفة… الفهد .. وسار إلى حيث الأسرى .. بعد أن قضى على حارسين أو ثلاثة فى طريقة ثم أخرج من جرابه. حجر المغناطيس .. وحركة أمام الأقفال فتهاوت..
وفتح الباب.. ودخل إلى حيث كان فرسان بنى هلال.. فى القيود يقاسون الأهوال.. فطمأنهم ووزع عليهم أسلحة الحراس.. .وبعد أن قيدوهم وأخفوهم عن الأنظار .. دلهم عل الطرق الجانبية التى يعرفها جيداً .. حتى وصلوا إلى قرب باب المدينة فطلب منهم الانتظار حتى يفتح لهم..
وما أن رآه الحراس حتى تعرفوا عليه وأسرعوا يلتفون حوله للتبرك به.. ونيل رضاه وخالص دعاه.. ففرق عليهم تمراً مبروكاً من أرض " نجد" .. وما أن تناولوه حتى راحوا فى سبا عميق .. فقام وفتح الباب.. وأطلق صفيراً خاصاً.. فأسرع فرسان بنى هلال، وكانوا اكثر من سبعين من خيرة الرجال.. انطلقوا جميعاً وهو خلفهم نحو مضارب بنى هلال … التى كانت غارقة فى الظلام .. فاستيقظ الأهل فرحين لعودة الأبطال سالمين غانمين وأقبل الجميع على أبو زيد يهنئونه على ما فعله. ويعتذرون عن ظنونهم التى لم يستطعوا لها تفسيراً .. ولم يعرفوا لها أى سبب!… فضحك أو زيد وهو يقول دون غضب.
- قد يكون الهرب لسبب فيه العجب.
قال الراوى..
أما ما كان من أمر الملك الدبيسى الذى قام من نومه على أصوات الفرح والانتصار فى معسكر بنى هلال… فتملكه العجب، وكان الجميع خائفاً إن يعلنه بالسبب .. حتى تملك منه الغضب .. وأطاح براس الذى رفض أن يجيب .. فأسرع الجميع يقصون عليه الحادث الرهيب.. فصار النور فى عينة ظلاماً .. فهل هو أبوزيد يخدعه للمرة الثالثة.. وأحسن أنها الضربة القاضية .. وبالفعل.. كان الغد يوماً رهيباً.. إذا ما أن أصبح الصباح.. حتى أمر بحمل السلاح.. وكان أبوزيد قد نصحه بعدم الخروج للقتال ذلك اليوم .. لكنه لم يسمع الكلام.. فهل على أبو زيد من لوم أن من يدخل الحرب غاضباً.. لابد أن ينهزم أو يفر هارباً.
وهذا بالضبط ما كان..
صلوا على خير الأنام.