مغامرة في قبرص
كعادته كلما قام بمثل هذه المغامرة اختفي أبو زيد عن الأنظار.. يفكر ويدبر ويجهز أدواته ويختار ملابسه ومواده ويضع الخطة التي ستمكنه من الفوز..
وأخيرا ودع الأهل والأصحاب الذين أصروا علي أن يصحبه حرس خاص حتى "اللاذقية" .. وبقوا هناك ينتظرون عودته سالما من البحر ليسرع بعضهم بأنباء انتصاره المؤكد حتى يخرجون للقائه كما يليق به..
وقبل أبوزيد صحبة الحرس علي مضض فهو يفضل دائما أن يلعب ألاعيبه الخفية بطريقة سرية.. ولذلك حين وصلوا إلي مشارف المدينة.. ودعهم ودخلها وحده ليستكمل تنكره.. ويبعد كل ما يلفت الأنظار إلي هويته..
ثم ركب إحدى السفن المغادرة إلي "قبرص" راهبا من رهبان دير "الجبران" ببيت المقدس.. يتحدث بلسان السريان.. ويحيط نفسه برائحة البخور وهمهمات الإيمان.. حتى صار ركاب السفينة يتبركون به.. ويعترفون له.. بل وقام بتعميد طفل ولد علي المركب.
وبهر الجميع بما هو عليه من علم وما يضفيه حوله من رهبة وخشوع.. ترتفع لهاآهات التقوى وتسيل الدموع..
***
حين وصلت السفينة إلي قبرص.. قصد الراهب علي الفور الملك الهراس ليقدم نفسه إليه كرسول للملك مثقال الذي كان يشاركه تجارة العبيد واقتسام الأرباح والأموال.
ولما رأي موكب الملك الهراس خارجا للصيد ألقي بنفسه في طريقة بعد أن سحب المبخرة وغذها بالبخور الكثيف الدخان النافذ الرائحة حتى لفت نظر الملك.. فقدم نفسه إليه.. ودار حوله بالبخور الزكي الرائحة حتى أسكره فسأله عن هويته فقال له:
- لي عشرون عاما أسيح في البلاد وأزور الأديرة وجئت إليك لأحذرك من بني هلال.. الذين يتربصون بتجارتك.. التي لم تصل منها قافلتك الأخيرة للملك مثقال مثلما حدث لقافلة كساب التي لم تصل لبرديس ولكنها كانت فريسة لدياب..
تعجب الملك الهراس لمعرفة الكاهن كل هذه المعلومات التي لم تذع بين الناس.. ولوهلة كالبرق شك في أن يكون الرجل مدسوسا عليه من قبل بني هلال.. بل همس لنفسه أنه قد يكون أبو زيد نفسه جاء يمارس عليه خدعة من خدعه..
وكأنما قرأ أبو زيد ما يدور برأسه فقال:
- أبشرك يا مولاي إنهم في بني هلال فرحون لاختفاء دياب الملعون في كل كتاب والموضع الآن تحت العذاب جزاء وفاقا علي ما اقترف. والذي أرجو أن يكون بذنبه قد أعترف.. ونال ما يكفيه لقاء ما جناه بيديه الآثمتين التي لم تراعي حرمة دير أو مكانه رهبان..
وأخذ يقرأ بعض المزامير بلغتها وهو يدور حول الحصان بالبخور يباركه ويبارك خروجه للصيد..
- ستصيد اليوم يا مولاي.. غزالا لم تر العين مثله من قبل في هذا المكان.. صده حيا يا سيدي فموته قد يطلق في الأرض روح الشيطان..
ازداد قلق الهراس ولكنه كان قد وقع في أسر الكاهن.. وقبل أن ينطق نظر الكاهن في عينيه نظرة عميقة مؤثرة وهمس له:
- وسيقابلك غراب زاعق ناعق.. لابد أن ترديه قتيلا. وإلا كان ذلك نذير شؤم، ودليلا علي أن الأمر سيكون وبيلا..
طلب منه الهراس أن يصحبه ليبارك رحلته ويهدئ من قلقه.. ولكن الكاهن اعتذر لأنه لا يحب أن يرى دماء الحيوانات البريئة تسيل..
فأمر بعض حرسه أن يصحب الراهب الجليل إلي القصر ليستريح من عناء رحلته الطويلة.. وليكون في انتظاره.. عند عودته ليستزيد من بركته وخبرته..
***
عاد الهراس سعيدا لأنه اصطاد ذلك الغزال الجميل الذي تنبأ بصيده الراهب.. ولكن القلق كان يعصف برأسه لأنه لم يصب ذلك الغراب الغبي الذي زعق فوق رأسه..وخشي أن يكون ذلك دليل نحسه..
فأسرع إلي الكاهن ليعرف رأيه..
واستطاع أبو زيد ببراعته أن يسحر ألباب الحاضرين بفصاحته.. إذ كلمهم باليونانية والفارسية.. ورطن بالسريانية والقبطية.. وقرأ عليهم مزامير داوود.. ونشيد الأنشاد بالقبطية وطمئن الهراس أن الغراب سيأتي إليه طائعا مستسلما ليضعه في قفص بناء علي أمر من راهب دير الجيران..
ثم أنه أخرج ثلاث سمكات مباركات من دير البنات، ودير جبل الكرمل.. ودير المحرق الموجود بمصر.. وأشعلها في حضرة الهراس.. وما أن فاح عطرها في المكان مختارا.. ليستقر علي ذراع الراهب الذي كان يتمتم بأشياء لا يعرفون لهامعني.. ليدخله في قفص ويقدمه للهراس الذي هب من فوق كرسيه خاشعا مذهولا من قدرات هذا الراهب.. وطامعا في بركاته.. وأصبح قلبه في قبضة أبي زيد كما أصبح غراب الشيطان المزعوم في قبضة القفص الحديد..
عليك الآن يا سيد الجزيرة أن تأخذ الغراب لتذبحه تحت أقدام أسيرك دياب. المقدر له أن يذوق علي يدي صنوف العذاب.. انتقاما مما فعله في حق حفظة الكتاب..
أمر الملك الهراس بفتح السجن أمام الكاهن أبو زيد ليتم ذبح غراب الشيطان تحت أقدام دياب..
وتقدم بعض الحراس حاملين المشاعل.. وأشار الملك إشارة معنية ومد يده فأدار لولبا بجوار أرفف مكتبة بها العديد من المخطوطات والكتب.. فدار الجدار الذي يحمل الرفوف.. وكشف عن سرداب طويل به سلم من الحجر.. ودعا الكاهن إلي الذهاب مع الجنود ليقوم بما يجب عمله.. ثم داعبه ضاحكا:
- لكن احذر أن تقترب كثيرا من دياب فله مخالب قد تقبض علي عنقك .. ونحن في حاجة إليك..
وضحك فضحك كل الموجودين.. ما عدا أحد الرهبان المقربين إليه والذي أحس منذ سيطر أبو زيد علي عقل الهراس واكتسب ثقته أن مكانته تتراجع وخاصة بعد أن شكك في الكاهن الذي يدعي أنه من بيت المقدس.. والذي لم يسمع باسمه أحد..
لم يخف علي الهراس موقف الراهب فداعبه قائلا:
- لم لا تضحك.. هل داس أحد علي أقدامك..
فقال الراهب:
- أخشى أن أحدهم قد داس علي قلبي يا سيدي..
فقهقه الهراس بشدة حتى اضطر للجلوس لكي لا يسقط الكأس من يده من شدة الضحك..
- ومن هذا الذي جرؤ علي أن يفعلها ويدوس علي قلبك الذي أعرف أنه قد من حجر. فأصابك بكل هذا الحزن هل هو كاهن دير الجبران؟
- سيدي .. لا.. فأنا لا أهتم ولكني أخشى عليك.. فثقتك الزائدة هي التي تقلقني..
- إذن من هو؟
- أنت يا مولاي.. لقد خدمتك علي مدى عمري.. وأحاول أن أفتح عيونك علي الخدعة الكبرى التي يدفعك للوقوع في براثنها هذا المحتال.. وأنت لا تصدقني:
- ولن أصدق أبدا.. أن هذا الكاهن الذي يحفظ الأناجيل والتوراة.. بالعبرية والقبطية.. بل والسريانية.. لا يمكن أن يكون هو نفسه ذلك الجلف البدوي أبو زيد .. لا.. أنت تبالغ حرصا علي مكانتك عندي..
وقام من مقعده وهب نحوه وربت علي كتفه مداعبا:
- مكانتك لن ينتقص منها هذا الكاهن عابر السبيل إنه جوال ولن يطيق البقاء عندنا.. بعد .. أن..
وهنا أضاف الكاهن في حزن:
- بعد أن يتم مهمته؟
هنا غضب الملك الهراس غضبا حقيقيا..
- أية مهمة؟ ..هل ستعود مرة أخرى للتشكيك في نواياه.. أم التشكيك في ذكائي؟.لا .. لن أسمح لك بذلك.. هيا.. اتركوني الآن فأنا أريد أن أستريح قليلا بعد هذا الجدل العقيم!!
***
ظل سلم السرداب يهبط بهم طويلا حتى خيل لأبو زيد أنهم وصلوا باطن الأرض .. فإذا بهم أمام باب حديدي كبير أمر كبير مراقبي الحراس بفتحة فدخلوا إلي سجن عجيب منحوت بالحجر .. له عدة نوافذ عبارة عن ثقوب من الصخر تطل علي البحر المتلاطم مباشرة..
وكان دياب مقيدا. وقد اشتد الحال عليه من قلة النوم ورداءة الطعام.. وذل الأسر ..كان ذائغ العينين مشعث الشعر يعاني من بثور وجراح فظيعة من أسلحة وأدوات التعذيب.. ونار الحريق.. وكاد أبوزيد أن يفقد حذره من شدة الغضب والحقد علي ذلك الهراس العديم القلب والشرف والذي يعامل مقاتلا مثل دياب هذه المعاملة..
لكنه تمالك نفسه بصعوبة.. وأراد أن يبدد ما قد يكون قد لاحظه مرافقوه.. فتقدم من دياب في غضب وصاح به: "خسئت أيها اللص القاتل"..
ثم صفعه صفعة رددت الجدران صداها..
فاهتز دياب من غيبوبته وكاد أن يمسك به ويفتك به لولا أن قفز أبو زيد بعيدا.. فصاح دياب:
- قطع الله يمينك أيها الثعلب.. الذي يصفع سجينا مغلول اليدين.
فأخذ أبوزيد خنجرا من طيات ثيابه وذبح الغراب في لحظة وألقي به علي دياب فلطخته دماء الغراب وهو يصيح..
- وأنت قطع الله عمرك من هذا السجن.
ثم استدرك..
- وأن يكون هذا اليوم آخر أيامك علي ظهر الدنيا..
عندما رأي دياب الغراب.. وسمع ما قاله الكاهن حتى فهم أن هذا الرجل ما هو إلا أبو زيد.. وكادت تفلت منه صرخة تنادي عليه ولكن نظرة كاللهيب واجهته فانخرس لسانه ولكنه أحس براحة شديدة.وتأكد أن الحرية أصبحت علي بعد خطوتين منه..
***
تجول أبو زيد في السجن مستكشفا كل شبرفيه وعرف مداخله ومخارجه.. ودرس وحفظ عدد الحراس وأماكنهم..واكتشف أن في هذا السجن الحجرى المنحوت في الصخر تحت قصر الملك .. أكثر من ألف عبد من مختلف الجنسيات يجهزون للإبحار فيي عدد من السفن التي ترسو أمام الحائط الصخرى عل حاجز من الصخور يؤدي إليه سلم ينتهي بباب كهف متصل بالسجن يحرسه عدد من الحراس..
وبعد أن رسم خطته طالب من مرافقيه اصطحابه عائدين عبر السجن إلي قصر الملك..
واستقبله الملك الذي كان وحده بعد أن صرف رجاله وبقي يتناول الشراب والطعام مع جارية جميلة.. كانت تعزف وتغني..
طلب الهراس من أبي زيد أن يشاركه الطعام والسمر وأمر بانصراف بقية الحراس.. وفوجئ الكاهن بعد أن مضت عدة ساعات عليهم وهم في سمر يتبادلون الأحاديث والنكات- وقد سحر الهراس بما حدثه عما رآه في رحلاته التي شملت كل الصحراء حيث ولدت ورآها تغمز له وكأنها تريد أن تقول له أنها تعرفه..
وكانت الأشعار التي تغنيها تحكي عن إحدى مغامراته القديمه.. وهنا قرر ألا يؤجل خطته أكثر من ذلك وقد تبادل الإشارات معها فأكدت له أنها عرفته وأنها معه.. ولكنه ظل يسامر الملك الهراس ويسقيه حتى بنجه ببنج قوي .. وتأكد أن كل شيء علي ما يرام.. وبسرعة وسده في سريره.. وتركت هي عودها.. وانطلقت تساعده.
ورآها تمتشق سيفا فظنها لوهلة علي وشك خيانته ولكنها كانت تريد أن تؤكد له أنها مقاتلة أيضا بقدر ما هي جميلة ومغنية.. وهمس لها بخطته.. وفتحا الباب المؤدي إلي السرداب وانطلقا في ثقة نحو السجن..
ولم يشك الحراس في أي شيء فالراهب كان هنا منذ ساعات بأمر الملك وأكثر من ذلك كانت مع جارية الملك المفضلة التي يعرفونها جيدا..
فتحول له الباب وتركوه معها ليشبع رغبتها في التشفي في دياب الفرجة علي السجن والمساجين ورفض أن يصحبه أحد منهم.. فهو يعرف طريقة جيدا.. واستطاع بخفة أن يجمع أكثر الحراس حول شراب مبنج أفقدهم وعيهم.. وفكت الجارية قيود دياب.. الذي كان في حالة سيئة من القهر والعذاب.. وتخلصوا من بعض الحراس في طريقهم.
ثم حدث أبو زيد العبيد الأسري المخطوفين من بلاد عديدة بلغاتهم ففرحوا لأنه سيحررهم.. وأقسموا علي طاعته فشرح لهم خطته للإستيلاء علي المدينة وتخليصها من ذلك الهراس تاجر العبيد.. وقسمهم إلي أقسام.. ووزع عليهم المهام.. ثم صعد إلي حجرة الملك وهنا لم يتمالك دياب نفسه فأيقظه بقسوة وهو مذهول مما يجرى .. وقتله..
وبينما كان بعض العبيد المحررين يستولون علي السفن، كان البعض الآخر يخرج للاستيلاء علي المدينة.. التي كان معظم أهلها يتوقون للتخلص من الهراس..
وتجمع تجار وأعيان المدينة وطلبوا من أبي زيد أن يجلس كبيرهم علي عرش الهراس.
وحملت كنوز الهراس وتحف قصره في المراكب ورحل أبو زيد ومعه دياب إلي اللاذقية حيث وجدوا مرافقيه ما يزالون في الإنتظار.. فأرسل بعضهم يحمل البشرى إلي بني هلال.. بعودتهم سالمين رافعين رايات الانتصار..
كعادته كلما قام بمثل هذه المغامرة اختفي أبو زيد عن الأنظار.. يفكر ويدبر ويجهز أدواته ويختار ملابسه ومواده ويضع الخطة التي ستمكنه من الفوز..
وأخيرا ودع الأهل والأصحاب الذين أصروا علي أن يصحبه حرس خاص حتى "اللاذقية" .. وبقوا هناك ينتظرون عودته سالما من البحر ليسرع بعضهم بأنباء انتصاره المؤكد حتى يخرجون للقائه كما يليق به..
وقبل أبوزيد صحبة الحرس علي مضض فهو يفضل دائما أن يلعب ألاعيبه الخفية بطريقة سرية.. ولذلك حين وصلوا إلي مشارف المدينة.. ودعهم ودخلها وحده ليستكمل تنكره.. ويبعد كل ما يلفت الأنظار إلي هويته..
ثم ركب إحدى السفن المغادرة إلي "قبرص" راهبا من رهبان دير "الجبران" ببيت المقدس.. يتحدث بلسان السريان.. ويحيط نفسه برائحة البخور وهمهمات الإيمان.. حتى صار ركاب السفينة يتبركون به.. ويعترفون له.. بل وقام بتعميد طفل ولد علي المركب.
وبهر الجميع بما هو عليه من علم وما يضفيه حوله من رهبة وخشوع.. ترتفع لهاآهات التقوى وتسيل الدموع..
***
حين وصلت السفينة إلي قبرص.. قصد الراهب علي الفور الملك الهراس ليقدم نفسه إليه كرسول للملك مثقال الذي كان يشاركه تجارة العبيد واقتسام الأرباح والأموال.
ولما رأي موكب الملك الهراس خارجا للصيد ألقي بنفسه في طريقة بعد أن سحب المبخرة وغذها بالبخور الكثيف الدخان النافذ الرائحة حتى لفت نظر الملك.. فقدم نفسه إليه.. ودار حوله بالبخور الزكي الرائحة حتى أسكره فسأله عن هويته فقال له:
- لي عشرون عاما أسيح في البلاد وأزور الأديرة وجئت إليك لأحذرك من بني هلال.. الذين يتربصون بتجارتك.. التي لم تصل منها قافلتك الأخيرة للملك مثقال مثلما حدث لقافلة كساب التي لم تصل لبرديس ولكنها كانت فريسة لدياب..
تعجب الملك الهراس لمعرفة الكاهن كل هذه المعلومات التي لم تذع بين الناس.. ولوهلة كالبرق شك في أن يكون الرجل مدسوسا عليه من قبل بني هلال.. بل همس لنفسه أنه قد يكون أبو زيد نفسه جاء يمارس عليه خدعة من خدعه..
وكأنما قرأ أبو زيد ما يدور برأسه فقال:
- أبشرك يا مولاي إنهم في بني هلال فرحون لاختفاء دياب الملعون في كل كتاب والموضع الآن تحت العذاب جزاء وفاقا علي ما اقترف. والذي أرجو أن يكون بذنبه قد أعترف.. ونال ما يكفيه لقاء ما جناه بيديه الآثمتين التي لم تراعي حرمة دير أو مكانه رهبان..
وأخذ يقرأ بعض المزامير بلغتها وهو يدور حول الحصان بالبخور يباركه ويبارك خروجه للصيد..
- ستصيد اليوم يا مولاي.. غزالا لم تر العين مثله من قبل في هذا المكان.. صده حيا يا سيدي فموته قد يطلق في الأرض روح الشيطان..
ازداد قلق الهراس ولكنه كان قد وقع في أسر الكاهن.. وقبل أن ينطق نظر الكاهن في عينيه نظرة عميقة مؤثرة وهمس له:
- وسيقابلك غراب زاعق ناعق.. لابد أن ترديه قتيلا. وإلا كان ذلك نذير شؤم، ودليلا علي أن الأمر سيكون وبيلا..
طلب منه الهراس أن يصحبه ليبارك رحلته ويهدئ من قلقه.. ولكن الكاهن اعتذر لأنه لا يحب أن يرى دماء الحيوانات البريئة تسيل..
فأمر بعض حرسه أن يصحب الراهب الجليل إلي القصر ليستريح من عناء رحلته الطويلة.. وليكون في انتظاره.. عند عودته ليستزيد من بركته وخبرته..
***
عاد الهراس سعيدا لأنه اصطاد ذلك الغزال الجميل الذي تنبأ بصيده الراهب.. ولكن القلق كان يعصف برأسه لأنه لم يصب ذلك الغراب الغبي الذي زعق فوق رأسه..وخشي أن يكون ذلك دليل نحسه..
فأسرع إلي الكاهن ليعرف رأيه..
واستطاع أبو زيد ببراعته أن يسحر ألباب الحاضرين بفصاحته.. إذ كلمهم باليونانية والفارسية.. ورطن بالسريانية والقبطية.. وقرأ عليهم مزامير داوود.. ونشيد الأنشاد بالقبطية وطمئن الهراس أن الغراب سيأتي إليه طائعا مستسلما ليضعه في قفص بناء علي أمر من راهب دير الجيران..
ثم أنه أخرج ثلاث سمكات مباركات من دير البنات، ودير جبل الكرمل.. ودير المحرق الموجود بمصر.. وأشعلها في حضرة الهراس.. وما أن فاح عطرها في المكان مختارا.. ليستقر علي ذراع الراهب الذي كان يتمتم بأشياء لا يعرفون لهامعني.. ليدخله في قفص ويقدمه للهراس الذي هب من فوق كرسيه خاشعا مذهولا من قدرات هذا الراهب.. وطامعا في بركاته.. وأصبح قلبه في قبضة أبي زيد كما أصبح غراب الشيطان المزعوم في قبضة القفص الحديد..
عليك الآن يا سيد الجزيرة أن تأخذ الغراب لتذبحه تحت أقدام أسيرك دياب. المقدر له أن يذوق علي يدي صنوف العذاب.. انتقاما مما فعله في حق حفظة الكتاب..
أمر الملك الهراس بفتح السجن أمام الكاهن أبو زيد ليتم ذبح غراب الشيطان تحت أقدام دياب..
وتقدم بعض الحراس حاملين المشاعل.. وأشار الملك إشارة معنية ومد يده فأدار لولبا بجوار أرفف مكتبة بها العديد من المخطوطات والكتب.. فدار الجدار الذي يحمل الرفوف.. وكشف عن سرداب طويل به سلم من الحجر.. ودعا الكاهن إلي الذهاب مع الجنود ليقوم بما يجب عمله.. ثم داعبه ضاحكا:
- لكن احذر أن تقترب كثيرا من دياب فله مخالب قد تقبض علي عنقك .. ونحن في حاجة إليك..
وضحك فضحك كل الموجودين.. ما عدا أحد الرهبان المقربين إليه والذي أحس منذ سيطر أبو زيد علي عقل الهراس واكتسب ثقته أن مكانته تتراجع وخاصة بعد أن شكك في الكاهن الذي يدعي أنه من بيت المقدس.. والذي لم يسمع باسمه أحد..
لم يخف علي الهراس موقف الراهب فداعبه قائلا:
- لم لا تضحك.. هل داس أحد علي أقدامك..
فقال الراهب:
- أخشى أن أحدهم قد داس علي قلبي يا سيدي..
فقهقه الهراس بشدة حتى اضطر للجلوس لكي لا يسقط الكأس من يده من شدة الضحك..
- ومن هذا الذي جرؤ علي أن يفعلها ويدوس علي قلبك الذي أعرف أنه قد من حجر. فأصابك بكل هذا الحزن هل هو كاهن دير الجبران؟
- سيدي .. لا.. فأنا لا أهتم ولكني أخشى عليك.. فثقتك الزائدة هي التي تقلقني..
- إذن من هو؟
- أنت يا مولاي.. لقد خدمتك علي مدى عمري.. وأحاول أن أفتح عيونك علي الخدعة الكبرى التي يدفعك للوقوع في براثنها هذا المحتال.. وأنت لا تصدقني:
- ولن أصدق أبدا.. أن هذا الكاهن الذي يحفظ الأناجيل والتوراة.. بالعبرية والقبطية.. بل والسريانية.. لا يمكن أن يكون هو نفسه ذلك الجلف البدوي أبو زيد .. لا.. أنت تبالغ حرصا علي مكانتك عندي..
وقام من مقعده وهب نحوه وربت علي كتفه مداعبا:
- مكانتك لن ينتقص منها هذا الكاهن عابر السبيل إنه جوال ولن يطيق البقاء عندنا.. بعد .. أن..
وهنا أضاف الكاهن في حزن:
- بعد أن يتم مهمته؟
هنا غضب الملك الهراس غضبا حقيقيا..
- أية مهمة؟ ..هل ستعود مرة أخرى للتشكيك في نواياه.. أم التشكيك في ذكائي؟.لا .. لن أسمح لك بذلك.. هيا.. اتركوني الآن فأنا أريد أن أستريح قليلا بعد هذا الجدل العقيم!!
***
ظل سلم السرداب يهبط بهم طويلا حتى خيل لأبو زيد أنهم وصلوا باطن الأرض .. فإذا بهم أمام باب حديدي كبير أمر كبير مراقبي الحراس بفتحة فدخلوا إلي سجن عجيب منحوت بالحجر .. له عدة نوافذ عبارة عن ثقوب من الصخر تطل علي البحر المتلاطم مباشرة..
وكان دياب مقيدا. وقد اشتد الحال عليه من قلة النوم ورداءة الطعام.. وذل الأسر ..كان ذائغ العينين مشعث الشعر يعاني من بثور وجراح فظيعة من أسلحة وأدوات التعذيب.. ونار الحريق.. وكاد أبوزيد أن يفقد حذره من شدة الغضب والحقد علي ذلك الهراس العديم القلب والشرف والذي يعامل مقاتلا مثل دياب هذه المعاملة..
لكنه تمالك نفسه بصعوبة.. وأراد أن يبدد ما قد يكون قد لاحظه مرافقوه.. فتقدم من دياب في غضب وصاح به: "خسئت أيها اللص القاتل"..
ثم صفعه صفعة رددت الجدران صداها..
فاهتز دياب من غيبوبته وكاد أن يمسك به ويفتك به لولا أن قفز أبو زيد بعيدا.. فصاح دياب:
- قطع الله يمينك أيها الثعلب.. الذي يصفع سجينا مغلول اليدين.
فأخذ أبوزيد خنجرا من طيات ثيابه وذبح الغراب في لحظة وألقي به علي دياب فلطخته دماء الغراب وهو يصيح..
- وأنت قطع الله عمرك من هذا السجن.
ثم استدرك..
- وأن يكون هذا اليوم آخر أيامك علي ظهر الدنيا..
عندما رأي دياب الغراب.. وسمع ما قاله الكاهن حتى فهم أن هذا الرجل ما هو إلا أبو زيد.. وكادت تفلت منه صرخة تنادي عليه ولكن نظرة كاللهيب واجهته فانخرس لسانه ولكنه أحس براحة شديدة.وتأكد أن الحرية أصبحت علي بعد خطوتين منه..
***
تجول أبو زيد في السجن مستكشفا كل شبرفيه وعرف مداخله ومخارجه.. ودرس وحفظ عدد الحراس وأماكنهم..واكتشف أن في هذا السجن الحجرى المنحوت في الصخر تحت قصر الملك .. أكثر من ألف عبد من مختلف الجنسيات يجهزون للإبحار فيي عدد من السفن التي ترسو أمام الحائط الصخرى عل حاجز من الصخور يؤدي إليه سلم ينتهي بباب كهف متصل بالسجن يحرسه عدد من الحراس..
وبعد أن رسم خطته طالب من مرافقيه اصطحابه عائدين عبر السجن إلي قصر الملك..
واستقبله الملك الذي كان وحده بعد أن صرف رجاله وبقي يتناول الشراب والطعام مع جارية جميلة.. كانت تعزف وتغني..
طلب الهراس من أبي زيد أن يشاركه الطعام والسمر وأمر بانصراف بقية الحراس.. وفوجئ الكاهن بعد أن مضت عدة ساعات عليهم وهم في سمر يتبادلون الأحاديث والنكات- وقد سحر الهراس بما حدثه عما رآه في رحلاته التي شملت كل الصحراء حيث ولدت ورآها تغمز له وكأنها تريد أن تقول له أنها تعرفه..
وكانت الأشعار التي تغنيها تحكي عن إحدى مغامراته القديمه.. وهنا قرر ألا يؤجل خطته أكثر من ذلك وقد تبادل الإشارات معها فأكدت له أنها عرفته وأنها معه.. ولكنه ظل يسامر الملك الهراس ويسقيه حتى بنجه ببنج قوي .. وتأكد أن كل شيء علي ما يرام.. وبسرعة وسده في سريره.. وتركت هي عودها.. وانطلقت تساعده.
ورآها تمتشق سيفا فظنها لوهلة علي وشك خيانته ولكنها كانت تريد أن تؤكد له أنها مقاتلة أيضا بقدر ما هي جميلة ومغنية.. وهمس لها بخطته.. وفتحا الباب المؤدي إلي السرداب وانطلقا في ثقة نحو السجن..
ولم يشك الحراس في أي شيء فالراهب كان هنا منذ ساعات بأمر الملك وأكثر من ذلك كانت مع جارية الملك المفضلة التي يعرفونها جيدا..
فتحول له الباب وتركوه معها ليشبع رغبتها في التشفي في دياب الفرجة علي السجن والمساجين ورفض أن يصحبه أحد منهم.. فهو يعرف طريقة جيدا.. واستطاع بخفة أن يجمع أكثر الحراس حول شراب مبنج أفقدهم وعيهم.. وفكت الجارية قيود دياب.. الذي كان في حالة سيئة من القهر والعذاب.. وتخلصوا من بعض الحراس في طريقهم.
ثم حدث أبو زيد العبيد الأسري المخطوفين من بلاد عديدة بلغاتهم ففرحوا لأنه سيحررهم.. وأقسموا علي طاعته فشرح لهم خطته للإستيلاء علي المدينة وتخليصها من ذلك الهراس تاجر العبيد.. وقسمهم إلي أقسام.. ووزع عليهم المهام.. ثم صعد إلي حجرة الملك وهنا لم يتمالك دياب نفسه فأيقظه بقسوة وهو مذهول مما يجرى .. وقتله..
وبينما كان بعض العبيد المحررين يستولون علي السفن، كان البعض الآخر يخرج للاستيلاء علي المدينة.. التي كان معظم أهلها يتوقون للتخلص من الهراس..
وتجمع تجار وأعيان المدينة وطلبوا من أبي زيد أن يجلس كبيرهم علي عرش الهراس.
وحملت كنوز الهراس وتحف قصره في المراكب ورحل أبو زيد ومعه دياب إلي اللاذقية حيث وجدوا مرافقيه ما يزالون في الإنتظار.. فأرسل بعضهم يحمل البشرى إلي بني هلال.. بعودتهم سالمين رافعين رايات الانتصار..