المارية تنزل النهر

المارية تنزل النهر
كانت " المارية " بنت القاضى " بدير " تحرقها الرغبة فى أن ترى " النهر" .. أى نهر .. كم سمعت من حكايات عن ذلك الشىء الرهيب.. الجميل.. الذاخر بالمياه العذبة.. لم تكن قد رأت نهراً فى حياتها.. ولكن ما كانت تسمعه من حكاية ملأ جسدها رغبة فى النزول إلى الماء.
وكانت تهزها التساؤلات حول إحساس مثلها حين يغمرها كل هذا القدر من الماء.. وهى التى عاشت كل هذا العمر يؤرقها العرب من فقدان ما ليدهم من ماء.
كانت صبية عندما جفت عيون الماء فى وادى العباس.. وفى نجد … تأتيها ذكرى آخر عين ماء جارية رأتها وكأنها طيف من حلم قديم. الماء أغلى من الذهب يحفظونه فى القرب والأوانى ويتعاملون معه بحرص شديد وهو فى النهر فيضان وموج لا يحد..
وكان جسدها التى تلسعه الرمال ويحرقه الجفاف.. حين تربطه ببعض ما توفره من نصيبها الضئيل من الماء يكاد يقبل بظن كفها حين تسمح عليه بقطرات من الماء.
كانت تحس جلدها يتفجر بنشوة رائعة وهو يمتص رحيق الماء القيل الذى تهدهده به.. فما بالك وهم يتحدثون عن بشر ينزلون النهر ويغمرهم الماء حتى رؤوسهم .. يالها من روعة..
كانت المارية جميلة، شارع ذكر جمالها بين الرجال .. لكنها كانت حزينة تتحدث عن حزنها النساء.. ولم تكن تتحدث عن رغبتها الدفينة التى هى سر حزنها إلى أحد .. إلا لجاريتها العجمية التى كانت تؤجج لديها تلك الرغبة فى الغوص فى الماء، بحديثها الدائم عن بلادها التى تجرى من تحتها الأنهار.
وكيف كانت تعلب هو وأخوتها وصاحباتها وهن صغيرات فى النهر عاريات يتراشقن بزخات الماء العذب حتى دهمها ودهمهن ذات يوم أولئك النخاسين، الذين باعوها فيما بعد للقاضى بدير. لتحرم إلى الأبد من تلك المتعة التى لا شبيه لها والتى لم تعرفها المارية أبدا..
همست الجارية للمارية ليلة عسكر بنو هلال بعد رحيلهم عن بلاد الدبيسى:
- نحن الآن بالقرب من الفرات ياالمارية . فأجحت فيها الرغبة الدفينة العارمة للنزول إلى النهر.. وأخذت تتحين الفرصة لتفعلها ولو كلفها ذلك حياتها.

قال الراوى…
كان الملك الدبيسى وزيرا أسمه "همام" .. وحين قتل الملك وأحسن أن الدائرة ستدور عليهم سعى لإقرار السلام.. فأخذ الأمير مزيد بن الدبيسى وأمه بدر التمام .. وانطق إلى حيث خيمة الأميرة حسن بن سرحان. وطلب منه العفو والأمان.
فأوقف بنو هلال هجماتهم .. وعاد الناس فى مملكة الدبيسى إلى بيتوتهم.. تولى الأمير مزيد حكم البلاد.. وزوجة الأمير حسن من ابنه عمته " زينة العباد " وأقيمت الأفراح والليالي الملاح.. إلى أن أحسن الأمير حسن أن كل كبير وصغير فى قومه قد استراح .. فأمر بالاستعداد للرحيل.. ليكملوا طريقهم الطويل..
ولما وصلوا إلى مشارف بلاد العجم وأطلقوا مواشيهم فى المراعي التى كانت كثيرة الأشجار.. وافرة الخيرات بديعة الأزهار.. فعاثت فيها كالجراد، وأفرغت الآمنين من الرعاة والفلاحين من أهل البلاد.. وصل الخبر إلى السبعة ملوك العظام الذين كانوا يحكمون بلاد الأعاجم فى تلك الأيام.. وهم: فرمند، وعلى شاه ، والصلصل، والمغل، والقمقام، ومنذ المنذر، والملك النعمان.. الذين اجتمعوا ليضعوا خططهم لصد هذا العدوان.
قال بعضهم:
- لنخرج إليهم قبل أن يستريحوا من السفر، ونبادرهم بالهجوم قبل أن يستفحل لهم الخطر .. النسبى حريمهم والعيال.. ونستولى على ما نهبوه من الدبيسى من المال…
وعز على الملك النعمان وكأن أصله من العرب .. حرب بنى هلال.. فقال.
إذا كان الأمر أمر جمال ومال .فلنطب من عشر الأموال جزية لبقاءهم فى أرضينا ، واستهلاكهم لمراعينا. فإن استجابوا كان هذا المطلوب .. وإذا لم يوافقوا على بأدرناهم بالقتال الغضوب!.
واستحسن الملك الخرمند هذا الكلام ودعي أصحاب الورق والأقلام، وكتب رسالة بهذا المعنى لأمير بنى هلال. وهى باختصار.. المالك أو القتال..
وكان الأمير حسن قد ذهب إلى " نجد " لبعض الأعمال .. فلما وصل الرسول حامل الرسالة إلى المضارب.. سأل عن الأمير حسن فقالوا له أنه غائب.. ودولة بعضهم إلى خيمة الأمير أبو زيد الذى ولاه الأمير حسن الأمر فى غيابه.. وحين هم بالذهاب اعترض طريقه الأمير دياب عند الباب .. وأخذ منه الرسالة.. وقرأها فى عجالة، فاشتد به الغضب .. وضرب الرسول بلا سبب..
وخرج أو يزد على الضجيج والزعيق. فلما عرف السبب اشتدت به الضيق… لأنه لم يكن يوافق على ما فعله دياب دون مشورته… ولكنه أمر بالاستعداد للقتال حتى لا يظهر أمام رسول العدو انقسام قبيلته .. فيفهم منها ضعف جبهته ..
وبعد أن انصرف الرسول عائداً بجواب رسالته.. أخذ أبو زيد يؤنب دياب على فعلته .. لأن الواجب كان يقتضى مشورته خاصة وأنهم فى حاجة إلى الراحة، وكان يجب أن تكون فرصتها متاحة.
لكن دياب سخر منه وقال:
- أصبحت تفضيل أمور الكيمياء على القتال…
وابتلع أبوزيد سخرية دياب على مضض وسكت.. لأن خلافهم لم يعد له معنى والحرب قد أعلنت والمعركة اشتعلت..
* * *
تسللت المارية ومعها جاريتها من المضارب.. بينما كان الجميع مشغولين بالمعركة الدائرة من بعيد .. إذ كان الجرحى يعودون لمحاولة مداواة جراحهم والتخفيف عنهم.
بينما كان كثيرون من الرجال والعبيد مشغولين بتجهيزات أدوات الحرب بدلاً من المفقودة، وكانت النساء والإماء مشغولات بإعداد الطعام.
انتهزت المارية هذا الهرج والمرج… وخرجت مع جاريتها.
وتسللت مستترتين بالشجيرات والتلال متجهتين إلي حيث النهر القريب الذي أكدت موقعه الجارية العجمية علي بعد خطوات..
-إنني أكاد أشم رائحته يا مولاتي..
وسرعان ما وصلنا إلي الضفة العالية..فصاحت الجارية في فرح وهي تجرى صاعدة إليها.. وتبعتها المارية بلا وعي..
وما أن صعدت الجارية أعلي الضفة حتى صاحت بالمارية..وهي تركع علي ركبتيها وتقبل الأرض في خشوع وتبكي.. مما أثار دهشة المارية.. ولكنها واصلت الصعود وراءها حتى صارت إلي جوارها.
وما أن رأت النهر حتى شهقت مندهشة وقد زاد انفعالها.. وتوتر جسدها حتى بكت.. وهي تلمح تلك النظرة الغريبة في عيون جاريتها الباكية.. وأحست أن شيئا ما يدور بخلدها.. ولكن انفعالها بمنظر المياه الجارية تغلب علي خوفها.. فنزلت مندفعة إلي حيث مجرى الماء.. وما أن تأكدت أن أحدا لا يراها حتى خلعت ملابسها.. فشع جسدها نورا أدهش الجارية نفسها.. وفي نزق وتهور وتهور لم تستطع الجارية أن تمنعها من أن تلقي بجسدها في أحضان النهر وهي تشق وتصرخ في فرح وتتقافز كطفلة نزقة تمور في قلبها نشوات بريئة لا حدود لها..
ولكن قدمها زلت فجأة فصرخت في هلع وانتابها شعور بالخوف لم تعرف له مثيلا.. وحين علت المياه ملأها رعب لم تعرفه من قبل فازداد صراخها.. ولكن الجارية أسرعت إليها وقفزت بملابسها وراءها تساعدها علي الوقوف علي قدميها.. وتعيد إليها هدوءها..
وما أن استعادت توازنها حتى هدأت نفسها وعادت إليها سعادتها الغامرة وإحساسها الممتع بنشوة جسدها المغمور بكل هذه الكمية من المياه.. وكذلك عادت تلاحظ تلك النظرة الغريبة التي لاحت في عيون جاريتها من قبل ولم تعرها التفاتا، لكنها في هذه المرة قالت:
-ماذا بك يا عفراء؟
قالت عفراء وقد بدت في نظرة عينيها بعض القسوة الممزوجة بالحزن:
-لست عفراء.. ليس اسمي عفراء يا المارية) إن أسمى جلنار..
تعجبت المارية لتلك النظرة، ودهشت لأنها خاطبتها باسمها مجردا من كلمة يا سيدتي.. أو يا مولاتي.. فأمسكت بها في دهشة ولكن في تعاطف مع الدموع التي لاحت في عينيها..
-ماذا بك يا عفراء؟ هل أغضبتك..
نزعت جلنار كفها من بين يديها وقالت:
-اسمي جلنار.. وأرجوك يا سيدتي.. لقد حققت لك حلمك بمياه النهر.. فاستمتعي كما تشاءين ولكن دعيني أحقق حملي بالعودة إلي وطني.. إلي أهلي.. فقد كنت سيدة في بلادي.. سامحيني.. فلابد لي أن أفعل ذلك.. الوداع.
وانسحبت جلنار إلي وسط النهر وهي تلوح للمارية ثم استدارت سابحة نحو الضفة الأخرى وهي ترنو إلي ما وراء الضفة حيث مراعي طفولتها، وحيث أتضح فيها أصوات الأطفال الذين يلعبون في حرية..
بينما ظلت المارية واقفة وسط الماء كجنية عارية صعدت من الماء ولم تنزل من الصحراء.. مذهولة لا تستطيع أن تنطق من المفاجأة.. إلي أن تمكنت من استعادة نفسها حين تساقطت دموعها.. في مياه نهر لا تعرفه.. وجمعت مشاعر الخوف والرهبة الممزوجتين بسعادة غامضة:
-جلنار مع السلامة..
علي صوت المارية الصارخ.. أتي عدد من جنود العجم وشراذمهم الهاربة من المعركة عندما رأوا الدائرة تدور عليهم.. وما أن رأوا الحورية العارية في النهر حتى انتابهم رعب سمرهم فقد ظنوها لفرط جمال جسدها حورية من بنات النهر..
وعندما رأتهم المارية صرخت مرعوبة، وأسرعت تستر جسدها بالثوب الملقي على الضفة.. عندئذ عرف الجنود أنها إنسية فعادت لهم أرواحهم بعد أن سلبتهم إنسانيتها سحر ذلك الجسد الرائع الذي يشع نورا..فاندفعوا ناحيتها.. يحاولون النيل منها..
لكن سرعان ما تحول هجموهم عليها إلي قتال شرس فيما بينهم تطايرت فيه رؤوس.. وقطعت أيدي وكسرت عظام..
وحولهم منظر الدم وأحاسيس الألم إلي وحوش تلوح في عقولهم أطياف جسد الفريسة فيزيدهم شراسة..
وفجأة علت صرخة أعجمية لها كبرياء وقدرة علي السيطرة.. فوقفوا أجمعين كأنما شلتهم المفاجأة.وحين أفاقوا أسرعوا يركعون أمام الملك الصلصيل الذي كان يحاول جمع شراذم جيشه المقهور،ليعاود الهجوم فرارا من الهزيمة..
وحين استوضحهم سر قتالهم.. أشاروا في رعب ناحية المارية التي كانت تحاول إكمال ستر جسدها المضىء في رعب..
اهتز قلب الصلصيل عندما ومض في عينيه بريق الجسد المضىء.. فتقدم منها في بطأ ووجل وهو يملأ ناظريه منها..
-من أنت أيها الحورية؟..
فردت وهي تحاول استعادة رباطة جأشها وإخفاء رعبها عندما عرفت هويته..
-أنا الأميرة المارية ابنة القاضي بدير شيخ قضاة بني هلال..وأخي هو.. فضحك مقاطعا في زهو وقد أسعده أن تقع في يده هو بالذات:
-لم تعودي كذلك يا جميلة لم تعودي..
ثم نزل عن حصانه وجذبها إليه بعد أن أمسك بذراعها في قوة..
-الآن أنت أسيرة الصلصيل يا ست البنات ومن نصيبه.. وستكونين أعز جواريه.. صرخت المارية صرخة هائلة رددتها الطيور الفزعة..
-لا. يا غنيم.. انقذني..
كانت قد تعرفت علي ابن عمها"غنيم" الذي تصادف مروره بالقرب منهم في طريق عودته من مهمة..
لمحته فصاحت به فاندفع كالسيل يهجم علي الصلصيل مخترقا الجمع المحيط به من عساكره وعبيده..
وتلقاه الصلصيل في بأس وقوة.. فقد كان مقاتلا شرسا.. وبينما قيد الجنود المارية وأركبوها حصانا مبتعدين بها عن ميدان المعركة.. بينما ظل الفارسان يصولان ويجولان ويحاور كل منهما الآخر في قوة وعنف.. تشتعل في قلب غنيم نار العار التي ستلحق بعمه بسبب أسر أبنته.. وتعتمل في قلب الصلصيل لواعج إعجاب وهوى شديد للحصول علي تلك الحورية، التي طرحها النهر كجنيات الحكايات القديمة.
وطال القتال حتى استطاع الصلصيل أن يواجه ضربة إلي غنيم ألقت به قتيلا علي ضفة النهر.. فشهقت المارية شهقة أعقبتها صرخة ألم تحمل كل عذابات الأسر والعبودية التي راودها طيفها وأحست طعمها المر حين شاهدت فرحة الحرية في عيون جلنا..
وشاهد بعض العربان من بني هلال ما حدث فمضوا حزاني يبلغون الخبر إلي القاضي بدير الذي صرخ صرخة حزن رهيبة أفسدت عليهم فرحة الانتصار.
أسيرة في قصر النعمان
ظل بكاء القاضي بدير المبالغ فيه كما قال أبو القمصان يخيم علي مضارب بني هلال.. فيزيد من حزنهم عندما يهزمون.. ويعكر صفو فرحتهم إن عادوا منتصرين..
وكانت خطواته الثقيله برأسه المنكفئة علي صدره خجلا وحزنا .. لأسر ابنته.. تثير تعليقات العامة والأمراء..
- ما الذي يفعله بنفسه؟.. هل هذه أو مرة تأسر له ابنة؟..
- وهل ابنته أعز عليه من بناتنا؟..
- ما الذي كانت تفعله عند نهر الفرات؟..
- هذا هو الأمر العجيب.. هل كانت ذاهبة لتستطلع أمور الأعداء؟..
- أم كانت تخطط للهرب إليهم؟..
- اخرسوا.. المارية لما تكن لتذهب إلا غصبا عنها..
- إذن أين جاريتها.. ولم أخذتها معها؟ أليس هذا ما يؤكد أنهما كانتا تحاولان الهرب..
- أغرتها الجارية بالذهاب..
وكان هذا الكلام يصل إلي القاضي فيزيد من غضبه وحزنه.. ولكنه لم يكن يستطيع إيقاف حديث الناس أو الرد عليهم.. لأنه هو نفسه لميفهم لم ذهبت ابنته في صحبة جاريتها إلي النهر؟.. ولم خرجت أصلا من خبائها وابتعدت عن المعسكر كل هذه المسافة؟..
كانت شكوكه تزداد فتقبض بيد من حديد علي قلبه.. كلما وصل إلي سمعه ما يقوله الناس، ويحكونه عنها وعن غرامها بالملك الصلصيل.. الذي يدعون أنه قابلها كثيرا قبل هذه المرة، التي خطفها فيها، بل وتطوع بعضهم كي يؤكد أنه رآهما بنفسه .. وأضاف البعض من عنده ما يؤكد أن الصلصيل هو الذي أرسل الجارية من قبل عندما سمع عن جمال المارية..
ضاق صدر القاضي بدير بهذه الحكايات.. فلجأ إلي أبو زيد ليفتح له الكتاب أو ليقرأ الرمل أو يستخدم قدراته الخفية السحرية ليبين له وجه الحقيقة حتى يرتاح قلبه.. وهويقسم له أنها لو كانت قد ذهبت إلي الملك الصلصيل بنفسها فسوف يوافق علي زواجها منه.. وقد يكون ذلك هو السبيل لوقف هذا الاقتتال المفجع الذي لا تبدو له نهاية..
- قد يكون زفافها إليه السبيل إلي السلام. يا أبو زيد.. لكن لابد أن نعرف.. وأن يكون هذا برضائي.. ارحمني يا أبا زيد.. فالشكوك تكاد تقتلني.. والشعور بالعار يشق قلبي..
***
في اليوم التالي قرر أبو زيد ألا يخرج للقتال. فسخر دياب وهو يقول:
- مرة أخرى تفضل أمور السحر والكيمياء علي القتال.. ألذلك غضبت لأنني رددت رسولهم خائبا وأهنته وأهنتهم لأنهم يريدون نهب أموالنا..
قال أبو زيد دون أن يتحرك من أمام باب خيمته:
- مادمت استطعت أن تقنع الأمير حسن بما فعلته يا دياب.. فحاول اليوم أن تبرر له كل هذه الخسائر.. فقد تعيد الفرحة إلي قلب القاضي بدير.. بأن تعيد إليه انته المارية..
أدار دياب فرسه في كبرياء وهو يقول:
- فلتبق في الخباء يا أبا زيد.. ولسوف تنصرني اليوم الأرض والسماء معا.. لأذيق ملوك العجم الردي لتطاولهم.. ولتعد أنت لكتبك وأباريقك.. أعانك الله علي ساعات ضيقك..
وانطلق دياب قد أقنع الأمير حسن علي رأس الهلالية إلي المعركة حيث كانت جيوش الأعجام.. منتشرة فوق التلال والسهول في أبهة ونظام..
وكان الأمير حسن قد عاد من نجد بعد أن حمل إلي أهلهم هناك الكثير من الخيرات والأنعام التي كسبوها خلال معاركهم السابقة.. ولما عاد كانت شهيته قد تفتحت للمزيد من الغنائم.. ولذا أقر دياب علي خطته وخرج معه رغم أن رجاله كانوا متعبين من الرحلة.. وصور له دياب أن كل شيء علي ما يرام..
ولكنهم ما أن خرجوا للأرض المكشوفة حتى انقضت عليهم جيوش العجم.. من كل ناحية.. وبذل الهلالية كل ما لديهم من جهد وقوة.. ولكن الدائرة دارت عليهم.. فقد كان العجم يخرجون إليهم فيلقا وراء فيلق.. وجيشا وراء جيش.. حتى حاصروهم وحاصروهم.. فتراجعوا مدافعين عن أنفسهم حتى وصلوا إلي مشارف المضارب وازداد الصراخ والعويل.. ولما وصلت بعض النساء إلي خيمة أبو زيد تستنجد به وتستثيره.. ترك ما بيده وأخذته النخوة.. واندفع فوق حصانه شاهرا سيفه يهاجم العدو.. ويشد أزر المنسحبين ويعيد الروح إلي الخائفين وهو يصيح صيحات تهتز لها الجبال.. حتى صد الهجوم ومنع تقدم العدو..
واستعاد الهلالية مع صرخاته وصيحاته عزمهم.. فقويت روحهم وصاروا يكرون حوله وخلفه.. حتى استطاعوا استعادة زمام النصر.. وحرروا من وقع في الأسر.. وردوا العجم عن المال والحريم.. وسبحان الله العظيم مبدل الهزيمة نصرا..
وعندما عاد أبو زيد بعد أن هبط المساء وحوله الجند يهتفون وسط زغاريد النساء.
قال له الأمير حسن:
- مثلك تكون الأبطال يا زينة الرجال:
وقال دياب في خجل:
- لولاك يا فارس لكنا في خبر كان.
بينما تعلق القاضي برقبة فرسه وهو يصرخ..
- لكنني أريد المارية فمازالت في الأسر ضحية..
فطيب أبو زيد خاطره وقال:
- اطمئن يا قاضي العرب.. غدا ستعود لك ابنتك أيها الشيخ الجليل.. وستشفي عودتها ما بقلبك وقلبي من غليل.
***
قبيل الفجر تسلل أبو زيد ومعه أبو القمصان وبدر بن غانم وقد ارتدوا ملابس الأعجام.. وتسللوا إلي مدينة الكوفة مع الداخلين إليها من تجار ورعاة وباعة وسماكين وجمالين.. كان الجنود يراقبون الداخلين والخارجين في حذر وتدقيق..
ولكن لغة أبو زيد الفارسية سهلت الأمر عليهم فأخذوا يعرضون ألعابهم في السوق.. ولعب أبو القمصان دور المهرج المضحك البهلوان.. بينما راح أبو زيد يقوم بدور المصارع الجبار الذي يأكل النار.. ويفك سلاسل الحديد.. بينما بدر بن غانم يلعب دور الأخرس الذي يقرأ الفنجان..
وكان أبو زيد يقود جماعته عبر حواري وشوارع الكوفة التي يعرفها تماما.. حتى حل الظلام.. وخف حولهم الزحام.. وتفرق الناس كل إلي بيته.. فتغير الحال.
وقفزوا في خفة الفهود وتسللوا إلي قصر الملك الفرمند حيث عرفوا من أحاديث الناس وثرثرة الحراس.. ما جرى بين ملوك العجم حين رأوا جمال المارية. وكيف قرروا منعا للخلاف والاختلاف إهدائها إلي الملك الفرمند.. وكيف خضع الصلصيل لقرارهم علي مضض..
***
كالفهد قفز أبو زيد وتسلق شجرة باسقة تطل علي القاعة الرئيسية حيث تجمع ملوك العجم وحريمهم يحتفلون ويتدارسون الموقف بعد ظهور أبو زيد وصده لهجومهم..
ولمحهم جالسين علي عروشهم حول عرش الملك الأكبر الفرمند والمارية وسط الحريم كالقمر بعد أن ألبسوها ملابس الأميرات.. وكانوا يستمعون للغناء وهم يأكلون ويشربون..
حاول الملك الفرمند أن يعطي المارية كأسا من الشراب فرفضت وقالت له:
- نحن بنات العرب لا نشرب إلا لبن النوق يا ملك..
فضحك الفرمند وضحك معه الجميع، ما عدا الملك النعمان الذي كان وهو العربي حزينا لأسر المارية التي يعرف أصلها وفصلها.. وأخذ يتحين الفرص لإنقاذها..
وأمر الملك الفرمند أن يحضروا العود المارية لتسمعهم بعض غناء العرب.. الذين يعرف عنهم أنهم يعلمن نساءهن فنون الطرب..
وعزت علي المارية نفسها أن تكون مغنية تطرب أعدائها.. ولكنها أمام إصرار الملك تناولت العود وأخذت تغالب حزنها وبكائها وغنت فطرب السامعون إلا أبا زيد فقد مزقت الأغنية قلبه.. إذ كانت تناديه أن ينقذها مما هي فيه..
ولما زاد طرب الفرمند أمر لها بكأس من الخمر، ولكنها رفضت إطاعة الأمر وذكرت بأنها لا تشرب إلا لبن النوق والغنم.. وليست كبنات العجم..
وهنا تدخل الملك النعمان وقد زادت به الأشجان.. وكان الملك الفرمند متزوجا من ابنته هند فائقة الجمال.. وكان له عليه بعض الدلال..
وطلب من الفرمند قائلا:
- أعفها من هذا الكأس.. فهي ليست كغيرها من الناس.. وتناول الكأس وشربه هو.. وقال للملك.. سوف أخذ المارية إلي بيتي بعد إذنك لتكون في الحفظ والصون حتى تنتهي الحرب.. فقد يكون سلامتها ما يساعدنا علي إملاء شروطنا..
وهنا اندفع الصلصيل معترضا..
- أنا الذي أحضرتها ومادام الملك الفرمند لا يريدها فأنا أحق بها.. أنا الذي كسوتها فاخر الثياب وسآخذها إلي قصري..
وكاد تنشب بينه وبين النعمان معركة إذ جردا سيفاهما.. وكاد أبو زيد نفسه يقفز إلي الداخل، لولا أنه تماسك حتى يري ما ينتهي إليه الأمر.. إذا زعق الملك الفرمند في الصلصيل ونهاه وسمح للنعمان أن يصحبها إلي قصره.. حتى يفكر في الأمر وينفذ ما يراه..
- لست أريد أن ينشب بينكما خلاف ولكن متى ظفرنا بهؤلاء العرب سوف نرى ما نفعله بها.. أما الآن فلتذهب مع النعمان.. حيث تجد بين أهله من تتكلم معه.. وليعاملها كأميرة وليس كأسيرة..
ونزل أبو زيد بسرعة من علي الشجرة.. وحكي لزميليه ما جرى.. وانتظر خروج النعمان فتبعه معهم إلي قصره.. حتى اطمأن علي سلامة المارية.. ولما اعترض زميليه علي تركها تذهب معه .. قال أبو زيد:
- إنها في بيت النعمان في أمان.. هذا الرجل النبيل.. يستحق كل جميل.. فلا يجب أن نحرجه أمام الأعجام.. سوف نعيدها إلي أبيها بعد أيام.. حين ننتصر عليهم.. ونفرض السلام..
واحدة بواحدة
قال الراوي..
بعد حروبهم وانتصارهم علي الأعجام وصل بنو هلال إلي بلاد الشام.. ودارت بينهم وبين ملوكها وأمرائها حروب يشيب لهولها الولدان..
وكان لحكمة أبو زيد وحسن تقديره للأمور.. فضل كبير لما هم فيه من انتصار وسرور.. فقد كان يقدر لرجله قبل الخطو موضعها. وكان يختار للمعركة التي يدخلها موعدها وموقعها..
وحين وجد أن جيوش الملك برديس ملك"حلب" أقوى من جيوش بني هلال.. من حيث العتاد والسلاح والرجال.. وافق علي أن يدفعوا له عشر الأموال.. ولكنه دبر أن يرحلوا بأموالهم تحت جنح الظلام.. مما أثار غضب برديس فصمم علي الانتقام..
وخرجت جيوشه بقيادة وزيره الخزاعي تطاردهم.. حتى لحقت بهم وكان الحظ يعاندهم.. ولما برز الخزاعي يطلب أبو زيد للنزال.. خرج إليه مثقل القلب مشغول البال.. ولذا تمكن الخزاعي من إصابة الجواد فسقط أبو زيد يتخبط فيما عليه من سلاح وعتاد هنا هجم دياب علي الخزاعي ليلهيه ويعطي فرصه لأبي زيد ان يركب جوادا أخر ينجيه..
وجال الفارسان واشتد بينهما القتال.. حتى استطاع دياب أن يضرب الخزاعي ضربة فقتله في الحال.. وهنا هجمت جيوش "حلب" .. وقد تملك من ملكها برديس الغضب.. ولكن الزغبي دياب تصدى له في قوة غير هياب.. حتى استطاع أبو زيد أن يجمع أشتات بني هلال.. ويقودهم من جديد إلي القتال.. وظلت المعركة تدور بين الجيشين.. حتى حل المساءوهبط الظلام.. ففصل الليل بين (بني هلال) وجيوش الشام..
وشكرا الأمير حسن لدياب ما فعله مع أبو زيد الهلالي، لكن دياب قال له:
- يا أمير لا تبالي.. فلم أفعل سوى ما يمليه علي واجبي.. وسيظل أبو زيد رغم كل شيء حبيبي وصاحبي..
وكالعادة .. ظن الأمير حسن أن دياب يعرض بما فعله معه.. حين لامه بشده وأسمعه كلاما أوجعه.. يوم تسبب في إشعال الحرب مع الأعجام بينما كان من الممكن أن يعبروا أرضهم في سلام..
حينئذ قام أبو زيد واحتضن دياب وشكره علي إنقاذ حياته بتدخله في اللحظة المناسبة ف كان سببا في نجاته..
وقضي الجميع الليل في استعداد لمعركة اليوم التالي.. وهم يتعاهدون علي أن يدفعوا في سبيل هزيمة برديس كل رخيص وغالي..
وفي الصباح خرج إليهم برديس وفي قلبه تشتعل نيران الرغبة في الانتقام لمقتل وزيره الهمام .. وخرج إليه دياب علي الفور بعد أن طلب من أبو زيد أن يترك له الدور .. واستطاع دياب بعد قتال دام طويلا، أن يردي برديس قتيلا..
قلما رأي جنوده ما حدث له زاد غضبهم.. وهجموا هجمة رجل واحد لينتقموا لملكهم.. واشتبك الفريقان وجرى بينهم الدم وسال. ووقعت النصال علي النصال.. وتزلزلت الأرض ممن ضجيج الأبطال.. حتى أحس جيش حلب أن الدائرة قد دارت عليهم وأيقنوا من الانكسار فلاذوا بالفرار.. وتحصنوا بأسوار المدينة التي باتت مهزومة حزينة..
ولما أتي الصباح.. خرج التجار والأعيان وعلي رأسهم الأمير جمال بن الملك برديس يطلبون الأمان. وأن يعامل بنو هلال أهل المدينة بالإحسان.. وأقام بنو هلال في مدينة حلب. عشرة أيام.. في سلام واحتفالات وطرب..
ثم تجهزوا للرحيل قاصدين مدينة"حماه".. محملين بأطنان مما افتدت به حلب.. نفسها من الفضة والذهب..
وودعهم أهلها في فرح وسرور بعد أن تصالحوا معهم وسووا ما بينهم من أمور.. إلا واحدا من تجارها.. كان أسمه كساب.. لم يغفر أبدا لدياب قتله للملك برديس.. وما سببه هذا له ولتجارته من خراب..
صلوا علي المصطفي الهادي يا أولي الألباب واستغفروا المولي عالم الغيب ومسبب الأسباب..
***
كان كساب من أشهر تجار المدينة وأغناهم وكان أقرب التجار للملك المقتول برديس لأنه كان حلقة الاتصال مع ملك "قبرص" المسمي بالهراس..
وكان الهراس يسيطر علي تجارة العبيد في شرق البحر المتوسط، يخطف الأطفال من بلاد الشام والعجم ويهربون إلي قبرص حيث يأتي تجار العبيد من أوروبا لبيعهم هناك في المزارع والمناجم..
وكان برديس يحمي كساب ويشاركه هذه التجارة .. التي كانت تقوم علي مبادلة المخطوفين بكافة أنواع البضائع..
وقد حدث قبيل مقتل الهراس أن كانت قافلة كبيرة له عائدة من "قبرص" محملة بمختلف البضائع فوقعت في يد دياب والزغابة.. ولما قتل دياب برديس انقطع أمل كساب في استرداد بضاعته التي كان الاستيلاء عليها كارثة تكاد تقضي عليه وعلي ثروته.. بل وعلي مكانته عند الهراس.. فقرر أن يذهب إلي الأمير دياب يرجوه أن يرد إليه ما اغتصبه من أمواله.. فضحك دياب وقال..
- أنا لا أعرفك يا رجل وهذه القافلة كانت ملكا لبرديس كما تدل كل الأوراق.. وكما قال الرجال المصاحبين لها.. كيف تدعي بعد ذلك أنها ملك لك.
فتوسل إليه كساب وحاول أن يشرح له العلاقة فقال:
- يا سيدي .. أنت لا تفهم..
ولم يتركه دياب يكمل كلامه بل هب غضبا شاهرا سيفه.. زاعقا..
- أنا لا أفهم يا كلب حلب.. أغرب عن وجهي والله لولا سنك لقطعت رأسك.. وفر كساب مهرولا من أمام دياب والحسرة تأكل قلبه.. وخاف أن يبقي في المدينة فهرب إلي قبرص يشكوا المصيبة لشريكه وصديقه الملك الهراس.. الذي استشاط غضبا وأقسم ليخطف دياب نفسه .. ويذيقه العذاب بيديه..
وكان عند الهراس ثلاثة شبان من البهلوانات كانوا يشتغلون في سيرك متجول.. ويلعبون في الأسواق والأعياد ألعاب خفة اليد والمصارعة والمشي علي الحال. ألحقهم بخدمته وجعلهم من المقربين جدا من حاشيته وخاصته.. يرفهون عنه ويتجسسون لحسابه.. ويهيئون له كل متعة ويحققون له كل رغبة، فلما رأوه مهموما مغموما.. أخذوا يروحون عنه بكل الوسائل.. فلم يبتسم وجهه ولم ينشرح صدره إلا حين أكدوا له أنهم قادرين علي انتزاع دياب من فوق فرسه ولو كان في قوة "شمشون" .. وإحضاره إلي قبرص خاضعا ذليلا ولو كان في "برج بابل"..
وعلي هذا الوعد .. أسرعوا بتجهيز مركب بكل ما يحتاجونه من بضاعة وأدوات ومواد، وأخذوا معهم من الهدايا والعطايا ما يليق بالملوك.. وأبحروا إلي اللاذقية دون تأخير..
وكان الثلاثة يتقنون من اللغات ما يجعهلم يبدون كأنهم من أبناء البلد التي ينزلون إليها.. وقد أكسبهم تجوالهم وسط الأسواق في كل بلدان شرق المتوسط خبرة بالناس وبالحيل والحكايات ما يشق لهم أي طريق ويسهل أمامهم كل صعب، فقد كانوا مهرجين وممثلين ومصارعين وسحرة..
وما أن وصلوا حتى أمنوا حراسة مركبهم وحملوا معهم ما خف وغلا من الهدايا وبدلوا ملابسهم وانطلقوا يتبعون أثر بني هلال..
وما أن وصلوا إلي "حماة".. حتى طلبوا المثول أمام الأميردياب فقد أحضروا له ولأمراء الهلالية من الهدايا ما يأخذ بالألباب ويفتح عصي الأبواب..
- هذا يا سيدي سيف العقرب الذي يلدغ مثل العقربة السوداء فلا نجاة لملدوغ به ولو بشكه..
- وهذا خنجر إمبراطور الهند وملك السيخ الذي يقطع الشعرة الطائرة في الهواء..
- وهذا إبريق فضة صنعه حارس النار في جبل "الأولمب" بنفسه هديه لأمه.. ولا يفرغ منه الماء طالما هناك غيم في السماء..
وفهم دياب منهم أنهم ينوون إهداء كل من هذه العجائب الثلاثة مع مملوك أشقر الشعر ميلح الوجه من بلاد الغرب لا يقدر بمال.. إلي كل من حسن بن سرحان وأبي زيد الهلالي والقاضي بدير بن فايد..
كانوا يعرفون كيف يثيرون غيرة دياب وحنقة علي هؤلاء بسبب تهوره وبسبب ما به من غباء يتعلق بما يمس كرامته أو يضعه في مرتبة دنيا عمن ذكروه من أسماء..
- ولماذا تأتون إلي تطلبون حمايتي وأنتم تفضلونهم علي .. اذهبوا إليهم أيها الأشقياء..
وصنع فعلهم ما قصدوه.. فطيبوا خاطر دياب وأقنعوه أنهم لم يأتوا إلا إليه.. وهذه الهدايا له يفرهقها علي من يشاء ويعطيها لمن يريد.. أو يحتفظ بها إن شاء.
- ومع ذلك فهديتك أكبر قيمة .. فنحن نعرف أقدار الرجال.. يا سيد أبطال بني هلال.
ووضعوا أمامه صندوقا يحمله رجلان بصعوبة، ما أ، فتحه حتى خطف بريق اللؤلؤ والجواهر عينيه.. وملأ قلبه غبطة وسرورا ووضع علي عقله ستورا.. وقالوا له أنهم لا يطلبون حماية غيره.. فهو وحده القادر علي تأمين تجارتهم الفاخرة الغالية.
خلال نقلهما من اللاذقية إلى حماه… وكان غرضهم من إهداء تلك الهدايا للمذكورين أن يأمنوا شرهم عليه .. وأن يبعدوا عنه أطماعهم…
وأصاب كلامهم عقل وقل دياب فى مقتل ، خاصة أنهم أكدوا له أن هذه التجارة كان يحميا برديس وأن قاتله هو لأحق بنصف الأرباح التى كان يأخذها لقاء حمايته لهم…
قال دياب:
- سأفعل .. ولو كانت بضاعتك تحتاج لمائة ناقة.. لقمت بحراستها بنفسى.. وسوف آتى معكم وحدى لكى أعين بضاعتكم وأهيئ لها كل سبل الأمان…
وعلى الفور… ركب الثلاثة عائدين بصيدهم إلى اللاذقية…
وحرص دياب على ألا يراه أحد من رجاله… ولكنهم ما أن خرجوا من حماة حتى لاقاه الأمير عمار أخو الأمير حسن .. فناداه:
-إلى أين تقصد وحك يا ابن غانم؟ ومن هؤلاء الأغراب؟
فارتبك دياب ولكنه تمالك نفسه وقال:
- لا تشغل بالك يا عمار.. أنهم ضيوفى الشرفاء أصحبهم على الطريق لأجنبهم الغوغاء والسفهاء.
أصر عمار أن يذهب معه على غير رغبته:
- دعنى آتى معك لأعود معك…..
لكن دياب زجره:
- وهل أنا فى حاجة إلى حمايتك … أشكر للك همتك ولكنى كفيل بذلك فلا تتعب حالك… وارجع….
وعاد الأمير عمار إلى الديار…
بين أنطلق دياب مع البهلونات الثلاثة حتى أشرفوا مع الفجر على البحر.. ولم يكن دياب قد سمع أو رأيى بحراً فى حياته.. وكانت الليلة بلا قمر… والبحر هائج فارتج عليه…
وبلغ دوى الماء أذنيه كأصوات شياطين أطلقت من حبوسها.. وأطلقت عليه أوهام الغدر والخيانة. وخاصة عندما رأى الثلاثة غير مبالين بهذا العصف والقصف الذى لا يعرفه له مصدراً ول يفهم له سراً ولا تفسيراً.
وكاد يصيبه المرضى وأحسن بدوار كأنما تنزع من بين ضلوعه… ولما وصلوا إلى حيث السفينة رفض أن يركب معهم ولما لاحظوا ما أصابه… ترفقوا معه وطيبوا خاطره.. وأسرع أحدهم فأحضر خيمة رائعة نصبها على الشاطئ وحين دخلها ردت إليه روحه … وعاد إليه وعيه.. إذا كانت خيمة رائعة .. صفراء مذهبة بخيوط الذهب ومرصعه بالجوهر والمرجان والزمرد الأخضر … مفروشة بالطنافس والأرائك…ولما سقوه بعض الشراب انتعش… فأخرجوا له من إحدى القبح بذله إمبراطورية مزدانة بكل فأخر وباهر… لبسها دياب فظن نفسه إمبراطور الروم والعجم… وعاد له اطمئنانه فابتسم… وأتوا إليه بالمأكل والمشرب… وجلسوا حوله يطيبوه خاطره ويشرحون له ما ظنه من صنع الجن.. وحكوا ليه عن البحر وماوراءه… وعزف بعضهم على السنتورى ألحانا راقصة حتى أطمئن تماماً… فبنجوه .. فى الحال.. وقيدوه بالسلاسل والجبال… وحملوه إلى المركب التى سرعان ما فردت أشرعتها .. وحولت دفتها مع المد إلى " قبرص" ، إلى الهراس قاتل الرجال..
ولما أفاق دياب فى الصباح وجد نفسه مقيداً إلى الصارى الرئيسى على السفينة.. وكل من حوله يرتدون ثبات الأغراض فتأسف على حال وندم وعرف أنه قد أخذ غدراً من نقطة ضعفه التى تطارده أينما راح…. وهى تهوره وغروره الذى لا يفله سلاح..
قال الراوى..
ولما غاب دياب عم القلق الهلالية.. وحين حكى عمار ما حدث منه حين قابله مع الأغراب… عرف الجميع أنه وقع فى مكيدة شيطانة… وخدع بحيلة.. بهلوانية.. فلجأوا لأبى زيد الذى ضرب الرمل وفتح الكتاب.. فعرف أن دياب.. مأسور فى قبرص وأن الهراس يسومه العذاب…
ورغم أن شماته خفيه برقت فى قلب الأمير حسن .. إلا أنه لم يستسلم لها وطردها فى حزن وشجن. ولما رأى أبو زيد حالة .. قال له .
- يا أمير أنا سأخلص الأسير.. لقد أنقذ بالأمس حياتى وكنت قد أيقنت مماتى وسأرد له الجميل … وتكون واحدة بواحدة..