الموت في الغربة

الموت في الغربة
قال الراوي..
لما طالت الحرب بين العرب الهلالية وبين الزناتي خليفة.. وطال حصارهم لتونس الخضرا.. ظلت حربة أبو زيد التي أراد بها قتل الزناتي حين هرب أمامه والتي اخترقت الباب عالقة به.. لا يجرؤ علي انتزاعها أحد..
وكان أبو زيد يأتي كل يوم إلي باب المدينة صارخا طالبا الزناتي للقتال.. وكل يوم يرسل إليه الزناتي الأبطال إثر الأبطال.. فيعودون قتلي أو جرحي في أسوأ حال .. فكتب الزناتي إلي أبو زيد يطلب وقف القتال فاجتمع رجال بني هلال عند الأمير حسن ليتدارسوا ماذا يفعلون وكيف علي الرسالة يردون..
وبينما هم يتناقشون إذ دخل عليهم أحد العيون، من الذين يتنكرون ويتسللون بين صفوف جند الزناتى وفي أسواق نونس يبيعون ويشترون، وهم في الحقيقة يتجسسون .. وأخبرهم أن الزناتي يطلب وقف القتال، بسبب سوء الأحوال..
وأنه أرسل لساعته خطابات إلي رجاله وإخوته، أن يهبوا لنجدته..
وهنا قرر أبو زيد أن يذهب مع قومه من بني زحلان ليقطعوا الطريق علي القادمين قبل أن تزداد بهم قوة الزناتي.. والحقيقة أن الأمير حسن لم يكن مرتاحا لهذه الفكرة وخاف أن ينتهز الزناتي الفرصة لو عرف بغياب أبو زيد وبني زحلان في الغرب- وهو يعرف بغياب دياب في الشرق في حراسة الغنم والقطعان- فيخرج إليهم. وتدور الدائرة عليهم..
لكن أبو زيد طمأنة أن الزناتي المهزوم لن يحرك ساكنا إلا إذا وصلته النجدات.. وهو سيقطع الطريق عليها من كل الجهات..
***
حين أرخي الليل ظلامه.. أنسحب أبوزيد علي رأس بني زحلان.. قاصدا بلاد الغرب ليقطع الطريق علي أنصار الزناتي وإخوته.. وكانت خطته أن يتم الأمر سرا.. فلا يعرف به الزناتي..
ولكن الريح دائما لا تواتي..
فكما أرسل هو العيون لترصد تحركات جيوش الزناتي وتعرف مدى قوته.. أرسل الزناتي أيضا عيونا وأرصادا تراقب حركته..
لكن الزناتي انتظر حتى ابتعد أبو زيد.. لكي يخرج للقتال من جديد.. وخدمته الظروف خدمة جليلة.. كانت علي بني هلال كارثة وبيلة .. إذ أن أبو زيد أثناء جولة ليلية.. عقصة ثعبان أو حية جبلية.. وأصابة إصابة بالغة.. كادت أن تودي بحياته.. وأجبرته حين عاد أن يرقد عاجزا في الفراش..
وعلم الزناتي بما حدث.. فلم يضعالوقت.. ودق طبول الحرب في الحال .. ليشن الغارة علي بني هلال وهم في كرب لغياب الأبطال أبو زيد ودياب..
وما أن طلع الصباح.. وأضاء بنوره ولاح.. وأشرقت الشمس علي الروابي الخضر والبطاح.. حتى خرج الزناتي في لباس القتال.. وطلب الأبطال للنزال ..
وتظاهر الأمير حسن بالغضب حين رأي الزناتي يصول ويجول .. وهو ينادي ويتحدى الجميع بمنظره المهول .. وندم لأنه سمح لأبي زيد بالخروج لقطع الطريق علي النجدات .. ومن قبل أرسل دياب لحراسة القطعان والمال والجمال..
فهب من علي كرسيه طالبا الخروج إليه.. وكأن لسان حاله يقول امنعوني أن أخرج إليه.. وأسرع الأمراء فمنعوه.. متظاهرين بالخوف عليه.. وقالوا له:
- لا يصح.. وماذا نفعل من بعد إذ لا سمح الله حصل ما لا تحمد عقباه.. وأبو زيد في الغرب ملسوع من الثعبان .. ودياب في الشرق يرعى القطعان..
وهنا هب الخفاجي عامر وخجل وطلب الزناتي..
وحاول الأمير حسن أن يمنعه.. قائلا:
- هذا لا يصح وأنت ضيف علينا.. والضيف ليس له أن يقاتل عن مضيفه..
فرفض الخفاجي عامر وأقسم أنه إن لم يخرج لقتال الزناتي الآن.. فسوف يرحل هو ورجاله عائدا إلي بلاده..
فالأمر الآن لا يسمح بالضيافة..
وليس الخفاجي عامر بالذي يهرب من قتال الزناتي أو يخافه..
والتقي البطلان في الميدان.. وطال بينهما الكر والفر.. ولم يكن الخفاجي عامر بالمقاتل السهل .. ولا كان بالفارس الضعيف..
وظل الفارسان يتناوبان الضرب والطعان ويتبادلان الكر والفر.. حتى كل الزناتي ومل.. ولكنه ظل يتلقي هجمات الخفاجي بمهارة.. ويبادله الغارة بالغارة.. حتى فرق بينهما الظلام.. وعاد كل منهما إلي معسكرة لينام..
وفي اليوم الثاني.. عادا للقتال وظل الحال علي ما كان عليه.. فلا الزناتي بقادر أن ينال من الخفاجي ولا الخفاجي وجد الفرصة ليتغلب علي الزناتي .. وظلا يدوران بين كر وفر.. إلي أن كل الزناتي ومل.. فطلب وقف القتال..
وفي اليوم الثالث.. فر من أمام الخفاجي عامر بعد أن هده النزال..
ولما عاد إلي المدينة وهو في أسوأ حال .. تقدم منه ابنه مطاوع وقال:
- غدا سأختبئ يا أبي في الميدان.. وحين يهاجمك، أنكسر أمامه بجواري حتى إذا ما جاوزني خرجت عليه من وراه.. وطعنته في قفاه وأعدمته الحياة..
أما ما كان من أمر الخفاجي عامر.. فقد تعجب من فرار الزناتي .. وعاد إلي بني هلال .. فاستقبلوه بالأغاني والتهاني.. ولأنه كانت متعبا.. فقد راح إلي خيمته كي يستريح .. وأخذت زوجته وبناته يخففون قسوة القتال عليه.. فبدلوا ملابسه وطيبوه.. وغسلوا قدميه .. وفي فراشه أرقدوه..
فراح في النوم من شدة التعب..
لكنه هب فزعا من النوم لمنام رآه فأفزعه.. وحلم قض مضجعه..
وأسرع علي صوته أهله وأعوانه.. فروي عليهم ما رآه في منامه:
- رأيت وكأن شجرة خضراء يانعة.. نابتة أمام خيمتي.. وكأنني زرعتها بنفسي ورويتها بعرقي.. فأثمرت وأينعت.. وإذ بحطاب كئيب الوجه.. خبيث الضحكات والصوت يتقدم منها.. ويجتثها من جذورها وكأنما كان للشجرة صوت يتألم .. وإن لم أسمعها.. وكأنما كانت تريد أن تتكلم .. ولكني لم أكن أفهمها..
حاول الجميع التخفيف عنه.. وتفسير الأمر كنتيجة للإرهاق والتعب.. بعد ثلاثة أيام من القتال المرير.. وقالوا له أن الجسد المتعب يستريح بالنوم في فراشه النفيس.. والنفس المرهقة .. تروح عن حالها.. بالكوابيس..
ولكن تابعه ظريف.. لم يشأ أن يكشف عن تفسيره المخيف..
وقرر أن يكون في الغد قريبا من سيده.. ليحاول وقت الشدة أن ينجده..
***
فوجئ الخفاجي عامر بالزناتي بعد ساعة من القتال يفعل مثلما فعل بالأمس .. ورآه يفر من أماه .. وهو يغريه باللحاق به.. فطارده وكاد أن يفتك به.. وفجأة برز من خلف تبة هناك.. ابن الزناتي مطاوع.. وفي لمح البصر سدد سهما نحو ظهر الخفاجي فأرداه.. ورآه ظريف يخون مولاه.. فأسرع إليه ولكن بعد فوات الأوان.
وأن كان حز رقبته.. بينما كن الخفاجى يسقط من فوق ظهر الحصان.. كشجرة بلا أغصان.
***
قال الراوى..
عم الحزن معسكر الهلالية لمقتل ضيفهم الخفاجى بن عامر.. وارتفع الصراخ والنواحي حتى عم الوديان والبطاح.. بينما عاد الزناتى إلى تونس وسط مظاهر السرور والأفراح واجتمعت كل العربان تبكى فى الخفاجئ عامر البطل والإنسان.. وهو الجميل الصور الرقيق والوجدان.. رثاه الشعراء وبكته النساء .. وكسر الفرسان أسلحتهم على الجثمان .. ثم غسلوه وطيبوه وكفنون وواروه التراب فى تلك الأرض الغريبة والنفس لا تدري بأى أرض تموت .. وللموت فى الغربة رهبة.. سواء فى ساحات القتال أو تحت سقف البيوت..
وخروج الزناتى فى اليوم التالي… غير مبال بحزن بنى هلال… مطمئن البال لغياب أبو زيد ودياب..
أخذ يدور ويلف على فرسه المجنونة … يتحدى الفرسان كي يخرجوا ويقاتلونه:
ما بالكم يا بنى هلال…
هل فرغ منكم الأبطال..
أم مات الرجال…
من سيخرج للزناتى خليفة؟
أم إن قلوبكم خفيفة.
لا تحمل رؤية طلعتنى المخيفة؟‍..
****


قطع الصمت صوت القاضى بدير قائلاً:
- لا يصح أن نسكت عليه.. لابد أن يخرج أحد إليه .. وسوف أكتب أوراقاً بالأسماء … ومن تخرج بالصدفة ورقته يخرج إليه.. مضحياً برقبته..
قالوا: هذا أمر صواب لا يعاب…
ولما كتبوا الأوراق .. مد القاضى بدير يده كي يخرج ورقه من يخرج القتال الزناتى .. وأخرج إليه… مضحياً برقيته.
قال: عمرى راح…
قالوا: أنت صاحب الاقتراح..
فقام وزار قبر الخفاجى عامر وقد أحسن أن أجله قد دنا وحل موعد ارتحاله عن الدنا وأنشد يرثى الخفاجي ويرثنى نفسه..
ولسان حاله يقول.. ليس من أمر الله مهرب.
ثم قال: إذا حل الأمر.. فليس له زيد ولا عمر…
وشد حيله وقامته..
وامتطى فرسه وأخذ عدته..
ثم رمي العمامة ولبس الخوذة ونزل الميدان..
قال له الزناتى:
- من تكون أنت من بين الفرسان؟‍
قال له:
- أنا قاضى العربان.
فسخر الخليفة وابنه وهو يقول:
- أنت قاضى وتعرف الحق من الباطل.. وتنزل القتالى.. بل وتأتى من بلاد البعيدة أطفالى.. وتنهب مالي .. وهاد قد غاب عنكم دياب وأبو زيد .. ولذا سوف ترون أنا بأسى عليكم اليوم شديد.
***
ولأيام طوال .. قتل فيها القاضى وعشرات ومن الأبطال.. جز غياب أبو زيد ودياب على بنى هلال الوبال.. وجعلهم فى أسوأ حال..