حلمك يا دياب

حلمك يا دياب
أشتد الكرب ببنى هلال… وضاقت عليهم الحال…..
أبو زيد فى الغربى مريض يعانى من عضة الثعبان ودياب فى الشرق يرعى القطعان من أبل وأغنام والزناتى الذى قتل الخفاجى عامر والقاضى بدير يصول ويجول طالباً والنزال والقتال منتهزاً فرصة غياب الأبطال..
وفى كل يوم يخرج إليه فارس من الفرسان… فلا يلبث – إن طال بينهما القتال أو قصر – أن يجندله أو يقتله .. حى قتل أكثر من ثمانين أميراً ما بين كبير وصغير كان أولهم وأكبرهم القاضى بدير..
***
قالت الجازية للأمير حسن:
- لقد فتحت ملحمة أبى سرحان … التى أقرأ فيها ما سيكون على ضوء ما كان بإذن الواحد الرحمن فأخذتنى الأوراق والحروف… وصرح لى الكتاب أنه لا يقتل الزناتى سوى الأمير دياب وأنت يا أمير حسن أرسلته ليحرس القطعان وليرعى الغنم فى لوديان.. فابعث إليه كتاباً على وجه السرعة كي يعود.. قبل أن يفنى الزناتى بقية الجنود..
فقال الأمير حسن:
- ارفعى يا جازية هم دياب عنى .. هو لن يجينى أو يسمع منى… فأسرعت الجازة إلى صيوانها… وكتبت كتاباً فأسرعت الجازية إلى صيوانها.. وكتبت كتاباً لدياب تستنجد به وتستغيث وتستحلفه بدماء الضحايا ومنهم أخوة بدر خير الفرسان وموسى حامى العربان ومثلهم وطلبت منه ألا يجعل أى شىء يعطله فى الطريق وأن يضع نصيب عينيه ما هم فيه من ضيق.. ثم جمعت حوله البنات العذارى اللاتى قتل أبائهم أو أخواتهم والأمهات اللآتى قتل أبنائهم .. ليخبرنه أن دموعهن ستظل على الخدود تناديه وتنظره حتى يعود. ومعه دياب دون تأخير أو غياب أو أخذ النجاب سعد الكتاب. وانطلق يطوى السهول والهضاب، ويصل الليل بالنهار لمدة عشرة أيام.. حتى وصل إلى مكان فسيح ملئ بالأشجار.. يانع الأزهار .. يحيط بمدينه عالية الأسوار فأخذ يدور حولها.. ليجد سبيلاً للدخول إليها فوجدها شيئاً يحير العقول فى المنعة ووجد على بابها الكبير لوح من الذهب مكتوب عليها تاريخها فى ألف عام .. يحكي أن أهلها كانوا من الكرام. وكان بها ألفين من الجوامع وألفين من الحمامات والأسواق … ولا يوجد مثلها فى مصر ولا فى العراق .. ولكن الفساد بدأ يستشرى فيها… فجاب عليها واطيها، وسبحان مدبر الأرض ومن عليها.
ورأى النجاب سعد بالقرب منها نهراً رائقاً وحدائق وأعناب .. وعيون ماء رائق.. فنزل عن هجينة ليريحه ويستريح.. ولكن الهجين شط عنه فلت منه وسار نحو قطع من الجمال تألف معهم وتألفوا معه .. فلما ذهب ليرجعه.. هاجمه رجال صاحب المكان وقبضوا عليه.. وأخذوه لحاكمهم الذى حكم بالموت عليه.جزاء تعدية على أرضه. وكان سعد قد ربى ذلك الهجين منذ حوله فى صياح.. شق صفوف الناس واقتراب منه..
وأخذ يعلق وجهة بشفتيه وكأنه يهمس فى أذنيه ودموعه فى عينيه.. فكبر الناس وهللوا .. ورأى الحاكم المنظر فأذهله .. فأرسل لحراسة أن يأتون بهذا الرجل إليه: وقال له:
- هل أنت سحار؟
- فرد سعد نافياً.
- لا وحق الواحد القهار.. ولكن الإنسان حين يطيع الله فى كل شىء ..يطيع له الله كل شىء.
وهنا قال الملك:
- عندك حق .. وفى بعض الأحيان يكون الحيوان أكثر وفاء من الإنسان.
وأطلق سراحه بعد أن خلع عليه خلعه ملكيه… ولم يصدق سعد أنه نجا من اشنق فانطلق يسابق البرق، حتى وصل إلى وادي الفضاء وبر غلام بعد المرجة الخضراء حيث دياب يقوم هو ورجاله من الزغابة، بحراسة قطعان بنى هلال من الوحوض والديابة.
وكان هذا الأمر قد حز فى نفسه ولم يغفر للأمير حسن أنه أبعده القتال .. ليرعي الغنم والجمال.. هو فارس الفرسان، وقاهر الأبطال والشجعان..
ولما سأله دياب عن أحوال الأهل والخلان… بكى سعد بكاءً مراً .. وراح يقص عليه ما حدث منذ رحيله ثم غياب أبو زيد .. ومتقل القاضى بدير ومن بعده عقل وأخيه معيقل.. وما حدث لأخيه البدر.. ثم حكى قصة مقتل ضيفهم الخفاجي عامر .. ثم أخبره أن هناك الكثير من الشباب والعذارى تيتمن ومن الأمهات ترملن… ولما سأله عن أحوال الزناتى أن كان قد رآه فأخبره بما عاينه من هول منظره.. وما سمعه من علمه ومعرفته بعلوم النحو واللغة وعلوم الفلك والسحر والأبراج..وكيف أن الأهل صاروا مرعوبين منه لا يجرؤ أحداهم على الخروج إليه…
***
جلس دياب ساهماً يفكر فيما فعل بنى هلال معه.. فقرر أن ينتقم لكرامته .. ليشفى نفسه من علته ومرارة نفسه وأن يسقيهم كأساً أذاقوه من مرارة. فكتب كتاباً للأمير حسن.. يطلب منه إرسال براقع بنات المتيمين من بنات القتلى الأمراء الثمانين.
وهدد بأنه لن يعود إليهم إن لم يرسلوا ما طلبه وسيظل فى وادى الفضاء يراعى الأغنام ولن يشارك فى القتال أو يعود إليهم… ولو انطبقت على الأرض السماء..
حين وصل سعد إلى مضارب بنى هلال وحدة تجمعت حوله بنات المعذورين وزوجات المقتولين على يد الزناتى وهم غير مصدقين أن يرفض دياب نجدتهم والانتقام لهم خاصة وقد قتل إخوة له فيمن قتل الزناتى..
ولكن الجازية عندما عرفت شرط دياب.. عرفت بما فكر فيه… وعذرته لأن ما فعله حسن معه كان شيئاً لا يليق … أهان دياب وأوقع بنى هلال كلهم فى الضيق…
فقامت على الفور وذهبت إلى ميدان القتال وأخذت تجمع تجلطات الدماء من على الأرض .. والتى جفت على الرمال فصارت مثل كبود الجمال.. ثم ملأت بعض القدور بالماء وسخنتها على النار وبعد ذلك ألفت بالدماء الجافة فاتنلت من سخونة الماء.. ثم صفت الخليط وتركته يبرد واخضرت براقع العذارى وكتبت على كل برقع اسم صاحبته واسم زوجها أو عمها أو أخيها أو أبنها القتيل.. ثم طبقت البراقع ووضعهم فى قاع جراب وغطتهم بالتمر وقالت لسعد الهجين وأسعد النجاب..
-إذا سألك الأمير دياب ما الذى معك فى جرابك.. قل له أن هذه زوادتى فإن قال لك أطعمنى فاكبش قبضة تمر منها وقدمها إليه.. وعندئذ سوف يغضب ويثور ويتهمك بالبخل وحين يهجم عليك ليأخذ الجراب منك.. لا تعطه له إلا وأنت ممسك بالشهاب فتكون تلك حضنا أمنياً من غضبة وثورته .. فقال سعد لها.
- سمعاً وطاعة..
***
ثم أنه فعل بالضبط مثلما قالت له … وحين غضب دياب وانتزع منه الجراب أسرع واحتضن رقبة فرسه الشهبا كأنه يستنجد بها.. ولو لا لذلك القطع دياب رأسه .. لأن غضبه قد زاد وملك منه نفسه عندما دس يده فى الجراب وأخرجها فخرجت ببرقع زوجه الخفاجي عامر.. فاختنق من الغيط ودس يده مرة أخرى.. فخرجت ببرقع زوجه بدر بن غانم ثم برقع زوجه موسى..
وكلما خرج برقع فتاة أو أمراه وليس منهن إلا قريبة أو عزيزة . وانتفض دياب وصاح.. صيحة زلزت البطاح وهاج وثار ولف ودار وهو يرفع سيفه يريد أن يهدى غضبه ويفش غله.. م يكن أمامه سوى سعد فهجم عليه.. ولكنه لما رآه يحضن فرسه الغالية العزيزة عليه.. هدأت نفسه قليلاً وكاد يضحك من منظره وهو لابد تحت بطنها وقد احتضن ساقيها مرعوباً مقطوع النفس كالفأر المحاصر فقال له:
- عليك الأمان يا سعد والله لولا الخبز الذى بينى وبينك لكنت أطحت برأسك ولو كان مكانى حسن الهلالي.. لكنت مزقته ولا أبالى.
اخذ سعد النجاب يتحرك فى بطء وهو لا يصدق أنه نجا من هذه الغضبة الهائلة..
وأخذ يراقب دياب وهو يجز على أسنانه ويعانى من السيطرة على مشاعره التى كانت تغلي بالغضب مما فعله حسن الهلاى به وحكمة عليه أن يخرج من القتال ليعمل حارساً وراعياُ للمال والجمال.. وقلبه يكتوى بلهيب الحزن كل هؤلاء الفرسان الذين راحوا ضحايا خلو الساحة أمام الزناتى .. فى غيابه..
- فليسمع حسن الهلالي كلمتى.. وليدفع ثمن إهانتى .. وغيبتى عن أهلى وعشيرتى … أذهب وقل له إننى لن أركب ولن أقاتل الزناتى ولن أقتله.. إلا أن جاءنى هنا ثمانون من أمراء هلال.. ومثلهم من فقرائها ومثلهم من فقهائها حاملي القرآن.. كما أنزل على سيد ولد عدنان.. وعلى رأسهم أبى غانم .. وعلى رأسهم أبى غانم وأختى غنيمة.. ساعتها سوف أعود معهم لنجدتهم ولأقتل الزناتى وأفرج عنهم كربتهم.
ابتسم سعد فى مكر وقام من مكانه تحت الشهبا وهو لا يصدق أنه نجا .. وقال له مداهناً.
- يا فارس الفرسان ومجندل الشجعان.. ألا ترى أننا نضيع الوقت .. والزناتى يصول ويجول وينتهز هذا الغياب ليقطع الرقاب.
كاد دياب أن يعود الثورته… ونظر لسعد نظرة أفقدته قوته وخلخلت وكبته ..
- لا تغضبى يا سعد …
أسرع سعد يتعذر وهو يفافئ فزعاً:
- لا .. لتعدمنى الحياة لو أننى فتحت فمى بعد ذلك.
ضحك دياب لمنظر … ثم شهر حربته فجأة فأفزعه وشل حركته.. وقال:
- انظر يا سعد .. هذا الذئب الراقد تحت الشجرة . بينى وبينك… انظر .. إن قلت هذا الذئب فهو بشارة بقتل الزناتى .. وإن سلم الذئب قتلتك أنت.
ثم أطلق حربته نحو الذئب لكن الذئب استشعر رفيف الحرية فقفز فى خفة ذئب مذعور وفر هرباً.
فارتعد سعد وأيقن بالممات .. وصاح:
- يرحمك الله يا سعد برحمته الواسعة.. فقد عدمت الحياة..
وزحف كالجرو نحو الحربة يسحبها ليجد فرصته لا ستجداء النجاة..
وما أن سحب الحربة حتى تدلت منها حية مسمرة عينيها فى سنها الحاد.
فأخذ سعد يرقص ويقفز فرحاً كالمجنون .. كسجين فك أسره.. أو محكوم أعتقت رقبته.
فضحك دياب لمنظره .. وقال.
- والله لو لا طلعت هذه الحية مسمرة فى سن الرمح لكان رأسك مكانها يا سعد..
فقال سعد المرعوب:
- وأنا والله يا أمير دياب… عند رأيت الذئب يفر.. نويت قتلك..
فكاد دياب يختنق من الضحك .. وقال فى تبسط…
- وأهون عليك يا سعد..
فقال سعد وهو يسلمه الرمح بعد أن انتزع منه الحية:
- ألف ذقن ولا ذقنى … يا روح ما بعدك روح..
كف دياب عن الضحك فجأة وكست وجهه ملامح الغضب التى ترعب كل من يواجهه.
- هيا لا تضيع الوقت.. أياً كان الزناتى ذئب أو حية .. فأنا قاتله … هيا وأبلغ ابن الهلالي بشروطى .. وعد بالموكب المطلوب.. ليعود على رأسه قاتل الزناتى..